كثيرا ما يعلق البعض على منشوراتي في الفيسبوك الداعية للتمكين للغة العربية في هذه البلاد، بتعليقات تقول بأن اللغة غير مهمة، وأنه لا مشكلة في استخدام أية لغة، فلتستخدم الإدارة الموريتانية اللغة الفرنسية أو الصينية أو الهندية، فذلك لا يهم، فالمهم في النهاية هو أن يُحارب الفساد، وأن يُعيَّن الأكفأ، وأن تكون الإدارة قريبة من المواطن، وأن تحسن من خدماتها.
في هذا المقال سنكشف عن علاقة اللغة بإصلاح الإدارة ومحاربة الفساد والوحدة الوطنية، وإلى غير ذلك من القضايا التي تهم المواطن، ولكن، ومن قبل ذلك، دعونا نفترض جدلا أن اللغة غير مهمة، على رأي “جماعة اللغة غير مهمة”، فإذا كانت اللغة غير مهمة، فلماذا تتمسك هذه الجماعة بلغة أجنبية؟ ولماذا تقف ضد إبدالها بلغتنا الرسمية ما دامت اللغة غير مهمة حسب رأيهم؟.
إن القول بأن اللغة غير مهمة ما هو إلا حيلة مكشوفة يدفع بها المتمسكون ببقاء اللغة الفرنسية مسيطرة على الإدارة في هذه البلاد، ولأنهم لا يملكون حجة واحدة متماسكة منطقيا يدافعون بها عن بقاء اللغة الفرنسية مسيطرة، جاؤوا بمقولة اللغة غير مهمة، سعيا منهم إلى إبقاء الحال على ما هو عليه، أي أن تبقى اللغة الفرنسية مسيطرة، وأن يستمر تهميش اللغة العربية في الإدارة.
وحتى ندرك العلاقة بين اللغة والعديد من القضايا التي تهم المواطن، فإليكم هذه النقاط والأمثلة التي تبين وجود تلك العلاقة وقوتها.
اللغة وإصلاح الإدارة
إن أهم خطوة في إصلاح الإدارة تتمثل في تقريب خدماتها من المواطن، ويبقى الشرط الأول في تقريب خدمات الإدارة من المواطن هو في مخاطبة المواطن بلغته الرسمية التي يفهمها أو يفترض فيه أنه يفهمها.
إذن لا إصلاح للإدارة دون تقريب خدماتها من المواطن، ولا تقريب لخدمات الإدارة من المواطن دون مخاطبة ذلك المواطن بلغته الرسمية.
اللغة ومحاربة الفساد
لا يمكن أن نتحدث عن محاربة الفساد، دون أن تكون هناك رقابة شعبية على إنفاق المال العام، ولا يمكن أن نتحدث عن رقابة شعبية على إنفاق المال العام، وذلك في وقت تنفق فيه 40 % من الميزانية على الصفقات العمومية، وكل الوزارات والمؤسسات العمومية تشترط استخدام اللغة الفرنسية فقط في كل مراحل إبرام وتنفيذ الصفقات العمومية (العروض؛ العقود؛ المراسلات ..إلخ).
من أجل أن تكون هناك رقابة شعبية على الصفقات العمومية التي تستنزف فيها نسبة كبيرة من ميزانية الدولة، فقد تم الإلزام بنشر كل ما يتعلق بالصفقات العمومية، ولكن المشكلة أن النشر يتم بالفرنسية فقط، مما يعني أنه لم يحقق الهدف المراد منه، على الأقل بالنسبة ل90% من الشعب الموريتاني التي لا تفهم اللغة الفرنسية. خلاصة القول في هذه النقطة أنه لا حرب على الفساد بدون رقابة شعبية، ولا رقابة شعبية فعالة في ظل نشر كل ما يتعلق بالصفقات العمومية بلغة أجنبية لا تفهمها 90 % من الشعب الموريتاني؛
اللغة وحقوق المستهلك
يُوَقِّع المستهلك الموريتاني على عقود عديدة مع شركة الماء والكهرباء والبنوك وشركات الاتصال، دون أن يفهم أي شيء مما وقع عليه، وتأتيه فواتير ورقية من شركة الكهرباء والماء بلغة لا يفهمها، وبذلك يضيع واحد من أهم حقوقه كمستهلك، أي معرفة تفاصيل ما في الفواتير التي سيسدد، وما في العقود التي وقع.
في هذه الجزئية سأقدم مثالين اثنين لتقريب الفكرة أكثر:
1 ـ في بداية هذا العام حدثت أزمة بطاطس في البلاد، فاستغلها بعض المتحايلين لبيع بطاطس غير صالحة للاستهلاك البشري، وقد بيعت منها كميات كبيرة بالفعل، رغم أن خنشة البطاطس من هذا النوع كُتِبَ عليها باللغة الفرنسية بأنها غير صالحة للاستهلاك البشري. تصوروا أن ذلك التحذير كان مكتوبا باللغة العربية، فهل تعتقدون أنه كانت ستباع كميات كبيرة من هذه البطاطس دون أن يتمكن المستهلكون من قراءة التحذير المكتوب عليها باللغة العربية؟
2 ـ في إحدى القرى الموريتانية تعاقد سكان قرية مع شركة بخصوص جلب وتثبيت مضخة ماء في القرية. بدأت المضخة تشتغل، وكانت عندما تتعرض لبعض الأعطاب الخفيفة يتولى أهالي القرية تكاليف الإصلاح. وفي إحدى المرات تعرضت المضخة لخلل كبير كانت كلفة إصلاحه كبيرة، الشيء الذي جعل أهل القرية يستنجدون بأحد المنحدرين من قريتهم وهو إطار في الدولة ويحتل وظيفة سامية.. طلب الإطار من أهل القرية أن يأتوه بالعقد الذي وقعوه مع الشركة، فإذا ببند في العقد يلزم الشركة بإصلاح أي خلل يقع في فترة معينة، ولكن أهل القرية لم يطلعوا على ذلك البند لأن العقد كان مكتوبا باللغة الفرنسية، وأهل القرية لا يعرفون الفرنسية. فلو أن هذا العقد كان باللغة العربية لعلم أهل القرية بأن الشركة ملزمة بتحمل تكاليف إصلاح المضخة لفترة محددة.
اللغة والتعليم
من المعروف أن إصلاح التعليم هو الخطوة الأولى لإحداث أي نهضة في بلد ما، ويتفق خبراء التربية أن التعليم باللغة الأم يعدُّ شرطا أساسيا للنهوض بالتعليم.
إذن لا نهضة من دون إصلاح التعليم، ولا إصلاح للتعليم من دون التعليم باللغة الأم، ولكم في بعض الدول الآسيوية خير مثال؛
اللغة والقانون
على من يسعى حقا لبناء دولة قانون ومؤسسات، أن يدرك بأنه لا يمكن أن نبني دولة قانون ومؤسسات ونحن نعطل مادة من مواد الدستور الموريتاني. لا يمكن أن نبني دولة قانون ومؤسسات ونحن نميز بين مواد الدستور الموريتاني، نتحرك بقوة عندما نشعر بمحاولة المساس بالمادة 28 من الدستور، والتي تقول : ” يمكن إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمرة واحدة”. ونضع أنفسنا على الصامت، ونحن نتابع الانتهاك اليومي للمادة السادسة من نفس الدستور، والتي تقول : ” اللغات الوطنية هي العربية والبولارية والسوننكية والولفية . اللغة الرسمية هي العربية.”.
لا مجال للحديث عن دولة القانون والمؤسسات ونحن ننتهك، وبشكل يومي، ومنذ أكثر من ثلاثة عقود المادة السادسة من الدستور الموريتاني الصادر بتاريخ 21 يوليو 1991.
اللغة والترقية الاجتماعية
لا يمكن أن نتحدث عن ترقية اجتماعية، وعن نهوض بالفئات الهشة دون أن نعطي للغة العربية مكانتها في التعليم والإدارة، فأبناء الفئات الهشة لا يستطيعون تعليم أبنائهم في المدارس الخصوصية، ولا يستطيعون التكفل بدروس خصوصية في اللغة الفرنسية، على العكس من أبناء الأسر الميسورة الذين يدرسون أبناءهم في المدارس الفرنسية ذات الكلفة العالية جدا.
بعد التخرج، تتناقص حظوظ أبناء الفئات الهشة في الحصول على وظائف، وذلك بسبب الوساطة أولا، وثانيا بسبب فرنسة سوق العمل : الإدارة، البنوك، شركات الاتصال، الشركات الأجنبية، وممثليات الهيئات الدولية العاملة في نواكشوط. ستبقى حظوظ أبناء الفئات الهشة ضعيفة في الحصول على وظائف ما دامت اللغة الفرنسية هي المسيطرة على سوق العمل في موريتانيا. فمثلا لا يستطيع حامل شهادة باللغة العربية لم يتعلم اللغة الفرنسية أن يحصل على وظيفة ذات صلة بقطاع الصفقات العمومية الذي يُنفق عليه سنويا ما يقارب نصف الميزانية، وذلك بسبب اشتراط الوزارات والمؤسسات العمومية اللغة الفرنسية فقط في العروض والعقود والمراسلات، وفي كل ما له صلة بالصفقات العمومية؛
اللغة والوحدة الوطنية
لا يمكن أن نتحدث عن وحدة وطنية في بلد لم تحسم فيه قضية اللغة بشكل نهائي، في أغلب بلدان العالم هناك لغة رسمية واحدة، هي لغة الإدارة التي تعد بها الوثائق وكل المستندات الرسمية، وهي التي توجه بها كذلك الخطابات الرسمية، ولكن في بلادنا فإن الأمر يختلف، فمن المفارقات العجيبة أن رئيس المجلس الدستوري في موريتانيا يلقي خطاباته دائما بلغة غير دستورية!!
ومن المفارقات العجيبة كذلك أنك قد تسمع سفير اليابان أو ألمانيا أو أمريكا في نواكشوط يلقي خطابا باللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية على هامش حفل تقديم مساعدات لإحدى الوزارات، وذلك في وقت يكون فيه الوزير المستلم للمساعدات لا يستطيع أن يتحدث باللغة الرسمية لبلده، فيلقي خطابه باللغة الفرنسية.
لن تتعزز الوحدة الوطنية، دون حسم نهائي للمٍسألة اللغوية، وليس من اللائق أن تبقى إدارتنا تعمل وتتحدث بلسان غير دستوري، وذلك رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على المصادفة على دستور 1991، وأكثر من ستة عقود على استقلال البلد؛
اللغة والدين
لقد أنعم الله علينا في هذه البلاد أن جعلنا جميعا مسلمين، ولقد اختار الله لحكمة يعلمها هو أن ينزل آخر كتبه باللغة العربية، ولذا فعلى من أراد أن يتدبر القرآن أن يتعلم اللغة العربية، وعلى من أن أراد أن يؤدي صلاته أن يحفظ بعض السور التي نزلت بلسان عربي مبين، وعلى من أراد أن يتفقه في دينه أن يتعلم اللغة العربية أولا.
إن اللغة العربية لا ترتبط فقط بأمورنا الدنيوية، بل إنها ترتبط بديننا، أي بأمورنا الأخروية، ومن هنا يصبح تعلمها للمسلم ليس ترفا، وإنما هو ضرورة، ولقد سمعتُ من بعض كبار العلماء في هذا البلد، بأن الدفاع عن اللغة العربية في هذه البلاد جهاد في سبيل الله، وما على من انشغل به إلا أن يخلص نيته.
وتبقى كلمة
كثيرا ما يطرح علي البعض السؤال التالي : لماذا أنت ضد اللغة الفرنسية؟
أنا لستُ ضد اللغة الفرنسية، بل إني اعتبرها لغة عالمية مهمة رغم تراجعها في العقود الأخيرة، وأدعو إلى تعلمها. ما أنا ضده هو أن تستولي هذه اللغة الأجنبية على مكانة لا تستحقها في الإدارة أو التعليم، وأن يكون ذلك على حساب اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية.
إن السؤال الصحيح الذي كان يجب أن يُطرح هو : لماذا أنتم ضد اللغة العربية يا “جماعة اللغة غير مهمة”؟
في الحقيقة لم أجد سببا واحدا مقنعا يجعلني أتفهم أن ينتصر موريتاني مسلم للغة الفرنسية، وأن يكون ذلك على حساب لغة قرآنه، ولغة بلده الرسمية.
حفظ الله موريتانيا…
محمد الأمين ولد الفاضل
elvadel@gmail.com