كتب مدير صحيفة “لو بوينيه”، إيتان جيرنيل، في وصف انتقال إيمانويل ماكرون إلى قصر الاليزيه بكبريائه، وهو يوبخ أسلافه، أنه “لم يكن لديهم حس تاريخي ولا شعور بالمأساة”، وكأن العناية الإلهية بعثت بهذا الشاب الذي سيرفع فرنسا إلى مستوى أفضل المعايير الدولية، ليقود، في محاولته لقلب مسار الأمور، إلى التخفيض الكبير في التصنيف. ووصف الكاتب ماكرون بأنه “خائف عند الحاجة إلى الجرأة، وفخور عند الحاجة إلى تقديم تنازلات، وبالتالي ترك البلاد تغرق في حالة من الفوضى”.
هذا هو ماكرون!!
قال الرئيس الفرنسي ماكرون، في تصريحه قبل يومين، أن “أية دولة أفريقية لن تكون ذات سيادة اليوم، لو لم تكن فرنسا قد انتشرت”. إن ماكرون يريد مرة أخرى، قبل مرات سابقة، وبقليل من الأدب وعدم اللياقة، الضغط على مشاعر شعوب لم تعد تطيق اسمه ولا اسم بلده بالأساس. ليس هذا أول تصريح مسيء له وسط المطالب الصاخبة برحيل جيوشه حتى أصبح يطلق على تصريحاته الغبية “ماكرونيات” بسبب السذاجة وقلة الحكمة.
لقد قال ايمانويل ماكرون في احدى جامعات كوناكري عاصمة غينيا: “في افريقيا، اذا كانت الاسرة لديها سبعة أو ثمانية اطفال، فلو استثمرت مليارات الدولارات، لن يتغير أى شيء. إن التحدي الذي تواجهه أفريقيا هو تحد حضاري”.
لقد جاء الرد من عالم الاجتماع الغيني أمادو دونو ، الأستاذ في جامعة أحمدو دينغ في كوناكري: “الأفارقة لا يحتاجون إلى حضارة الفجور ،لأنه مع حضارتك يمكن لرجل أن ينام مع رجل، ويمكن للمرأة أن تنام مع امرأة، ويمكن لرئيس واحد أن تكون له عشيقتان في نفس الوقت، كما يمكن للمرأة النوم مع كلبها، ويمكن للطفل إهانة والده و أمه دون مشكلة، بل ويمكن أن يسجنهما!. مع حضارتك، عندما يصبح الوالدان متقدمين في السن، يؤخذان إلى بيت المسنين. وأخيرا، مع حضارتك يمكن للرجل أن يعيش مع امرأة في عمر أمه أو جدته دون مشكلة. الأفارقة ليسوا محتاجين لدرس في الحضارة يتلقونه من اناس مثلك”.
هل كان هذا تصريح حصيف من ضيف، أحرى رئيس لدولة تفرض احترامها “حضاريا”!!!!
وفي حفل تأبين المعلم المدرسي صمويل باتي، الذي قُطِع رأسه 16 أكتوبر 2020 في أحد شوارع العاصمة باريس بسبب عرضه على تلاميذه رسوما كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد صلى الله علية وسلم، قال ماكرون: “لن نتخلى عن الرسوم وإن تقهقر البعض”. كان بذلك داعما للرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها صحيفة “شارلي أبدو” مع وجود زعماء مسلمين معه في الحفل .
وفي اندفاع غير مسبوق، ووسط الفتك والتدمير وانحسار الضمير الإنساني وانهيار الشرعية الدولية أمام حرب إسرائيل الاجرامية في غزة، سقط ماكرون في معسكر إسرائيل خلال الحرب الجارية مع حماس، فقد طالب بقيادة حلف دولي ضد حماس التي تقاتل عن وطنها ضد الاحتلال الوحشي غير المسبوق في التاريخ. يقول الكاتب صناء برادا في مجلة Le360 ” ” : “قام ماكرون بفعل نفس الخطأ مرة أخرى. لقد نظم للتو اجتماعا في باريس لمحاربة حماس. لم يفهم العديد من الأشياء. أولا، حماس هي حزب سياسي، الأكثر تسجيلا من الناحية القانونية في العالم وفي فلسطين والذي انتصر في الانتخابات التشريعية لعام 2007”. وقد وجه برلمانيون فرنسيون رسالة حول خطر انحسار النفوذ الفرنسي في إفريقيا بسبب سياسات ماكرون الخارجية، وتراكم الفشل الديبلوماسي مما أدى لتحرك دبلوماسيين فرنسيين في الشرق الأوسط خارج الأعراف والتقاليد السياسية ووجهوا مذكرة تُعرب عن أسفهم “لانحياز الرئيس إيمانويل ماكرون لإسرائيل”، انحيازا يشكل قطيعة مع موقف باريس التاريخي المتوازن تجاه طرفي النزاع في الشرق الأوسط.
إنه سوء التقدير والانجراف في مواقف ضعيفة أصبحت تجر على فرنسا خسائر كبيرة وتدفع الكثير من أصدقائها إلى القطيعة مع باريس، تارة بسبب تصريحات متصابية للرئيس الفرنسي كما حدث مع بلدان في غرب إفريقيا، وتارة بسبب مواقف غير مسؤولة ومتحاملة ولا تنسجم مع السياسات الخارجية لفرنسا، تجاه الدين الاسلامي من جهة والشعوب العربية والإسلامية من جهة أخرى، واتجاه أكبر قضية عند العرب: “القضية الفلسطينية “. في حين كان على ماكرون ان يبقى حذرا اتجاه التقلبات ففرنسا لم تعد كما عهدها في الكتب .
2-فرنسا ظلت إمبريالية وبشكل دائم
في الوقت الذي تمّ فيه إلغاء التعامل بالجنيه الإسترليني فور استقلال المستعمرات البريطانية في أفريقيا، تمكّنت فرنسا من الإبقاء على فرنك المستعمرات الأفريقية (الفرنك الأفريقي). وبناء على ذلك، فقد وقع إرساء تعاون مالي بين فرنسا وهذه الدول الأفريقية “محكوم بـأربعة مبادئ أساسية، هي: ضمان تحويلات غير محدودة للعملة عن طريق الخزينة الفرنسية، والمساواة الثابتة، وقابلية التحويل الحر، ومركزية احتياطات النقد الأجنبي”، ليصبح بذلك الفرنك الفرنسي الأداة المعدّلة للفرنك الأفريقي (1 فرنك فرنسي يعادل 100 فرنك أفريقي).
وفي مقابل الضمانات التي توفرها لها الخزينة الفرنسية، يتوجب على البنوك المركزية للمنطقتين الماليتين “إيداع جزء من مدخراتها من العملة في حساب يعرف باسم حساب المعاملات، وهو حساب مفتوح في سجلاّت الخزينة الفرنسية”، بحسب الخبير الاقتصادي السنغالي سيرى سي، الذي أوضح أنّ “معدّل صرف العملة كان في حدود الـ100% خلال الفترة الفاصلة بين 1945 و1975، ليستقرّ، إثر ذلك، وانطلاقا من السنة الأخيرة، على 65%، وحرصت الدول المعنية على احترامه بانضباط كامل”.
“سي” أضاف قائلا: “تم النزول بهذه النسبة من 65% إلى 50% في ما يتعلق بالرصيد الخارجي الخام للبنك المركزي لدول غرب أفريقيا، طبقا للاتفاقية التي تم إمضاؤها في 20 أيلول/ سبتمبر 2005، ولاتفاقية حساب العمليات الممضاة في 4 كانون الأوّل/ ديسمبر 1973”.
وفي تطبيق للاتفاقية الجديدة لحساب عمليات مصارف دول وسط أفريقيا، الموقّعة في 5 كانون الثاني/ يناير 2007، فقد وقع التخفيض في هذه النسبة بشكل تدريجي، وانطلق العمل بنسبة 50% ابتداء من الأوّل من تمّوز/ يوليو 2009، بحسب الموقع الرسمي لـ”بنك فرنسا” الذي يشير أيضا إلى أنّه تم تقنين حركة حساب العمليات، عبر عدد من الاتفاقيات”.
ومن جهته، أشار المختصّ الاقتصادي السنغالي”سانو مباي”، وهو موظّف سابق في البنك الأفريقي للتنمية، إلى أنّ “فرنسا استثمرت هذه المدّخرات التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات في سندات الخزائن، لاستخدامها لاحقا كضمانات للقروض التي تتحصل عليها لتمويل عجزها العمومي”.
أمّا “جون كلود ماييمبا مبيمبا”، الأمين العام لمنظمة “أفريكان هيومن فويس إنترناشيونال”، الذي قام بتأليف العديد من الكتب في هذا الغرض، فلم يتوان من جهته عن تسمية الأشياء بمسمياتها حين وصف هذه المعاهدات بأنها “أكبر فضيحة إنسانية، عناصرها المصادرة والسرقة والعبودية”.
ومع اعتماد اليورو كعملة أوروبية انطلاقا من عام 1999، أصبحت هذه العملة الجديدة الأداة المعدّلة للفرنك الأفريقي، دون أن يشمل تأثير ذلك آليات تعاون المنطقة المالية، واتضح ذلك بشكل جلي حين أضحى اليورو الواحد يعادل 655.95 فرنك أفريقي، وذلك بعكس العملات الأخرى التي تأثرت بأبعد من مجرد انعدام استقرارها، بأن شهدت تدنيا ملحوظا في مستوياتها.
تحدث “مباي” بشكل أكثر وضوحا حين ذكّر بأن، معدلات الصرف المرتفعة بشكل كبير، تمكّن الشركات الفرنسية على غرار “بويغ” و”لا سوييتي جينيرال” و”بي آن بي باري با” و”بولوري” من حماية أرباحها، بما يضمن لها عدم انخفاض قيمتها النقدية الجارية.
“مامادو كوليبالي”، الرئيس السابق للمجلس الوطني الإيفوراي (البرلمان)، كان أيضا من بين الأصوات التي صدحت تنديدا بالآثار المدمرة لـ”منطق التوحش” الذي ينطوي عليه الاتفاق الاستعماري في أفريقيا، حيث إنه يقول في كتابه “استرقاق المعاهدة الاستعمارية” الصادر في 2008: “لقد تحصلت الدول الأفريقية الفرنكوفونية (الناطقة بالفرنسية) على استقلال على الورق، لكنها على أرض الواقع ظلت جميعها تابعة لفرنسا، باستثناء غينيا التي رفعت لاءً في وجه شارل ديغول، بخصوص هذا التمشي”.
ومن جهته، أضاف “ماييمبا مبيمبا” قائلا: “دولة حرة مستقلة ينبغي عليها أن تناضل من أجل عملتها، والفرنك الأفريقي ليس بعملة، وندرك لماذا يقوم مالكه الحقيقي (في إشارة إلى فرنسا) بما يحلو له”.
أمّا الخبير “سيري سي”، فختم حديثه متسائلا: “إلى متى ستظلّ أفريقيا تشكل مجالا حيويا لفرنسا وترتبط بعلاقات ثنائية تتحكم فيها مصالح القوى الاستعمارية القديمة؟”.
3-الحماية من الانقلابات
بصفة عامة كانت فرنسا تحمي الدول الأفريقية من الانقلابات ضد مصالح فرنسا أولا، أي تحميهم من الانقلابات التي تكون في مصلحة الشعوب، وذلك أيضا مقابل ملايين من الدولارات كعمولات. كما ضمنت الدول الإفريقية للشركات الفرنسية استغلال الموارد الاستراتيجية كالماس واليورانيوم والغاز والنفط من 1100 شركة كبرى، و2100 شركة صغرى، وثالث أكبر محفظة استثمارية بعد بريطانيا والولايات المتحدة. كما تملك فرنسا أيضا الحقوق الحصرية في الحصول على أي مواد خام تُكتَشف في أراضي مستعمراتها السابقة، مع منح الشركات الفرنسية أولوية في أي أنشطة اقتصادية في هذه البلاد، في حين احتكرت باريس وحدها عقود التدريب العسكري وحقوق الأنشطة الأمنية في هذه البلدان التي أُجبرت، بموجب الاتفاق ذاته، على التحالف مع فرنسا في حال خوضها لأي حرب ورغم اتفاق الحماية الأعرج. هذا وقد اغتالت فرنسا وأطاحت بـ 22 رئيسا.. بواسطة خلية فرانس آفريك. وهكذا حكمت فرنسا أفريقيا من وراء ستار لمدة 50 عاما.
الخلاصة
منذ مجيئها الأخير للمنطقة، تحت عنوان عملية سيرفال، لحماية الدولة المالية، وقعت ثلاث انقلابات في مالي. وكان آخرها ضد فرنسا بصفة راديكالية، بل جاء أصحابها، وقد تركت دولة مالي، بعد عشر سنوات من العمليات العسكرية، في بحر من الفوضى جعلت السلطات المالية تستدعي ميلشيات فاغنر روسية للدخول في المنطقة لأول مرة في التاريخ، وفقدت الدول الأفريقية في الغالب المحاذية لمالي جميعها شرعيتها السياسية بانقلابات ضد الوجود الفرنسي في المنطقة الأفريقية، كما انهارت منطقة الساحل على رأسها رغم أنها البنيان السياسي والأمني الذي كانت فرنسا تريد ترك المسؤولية الأمنية عليه .
إن وجود فرنسا في الواقع، لم يعد مرحب به في هذه المنطقة خاصة أنها كانت هي التي تقوم بحراسة التخلف واستنزاف المصالح من خلال حماية أنظمة ومستوى معين من الفساد لمصلحتها. وهكذا جن جنون ماكرون حتى أصبح على هذا النحو. وعلى كل حال، ليس ماكرون من الطبقة السميكة من الرؤساء الفرنسيين.
من صفحة الإعلامي والمحلل السياسي محمد محمود ولد بكار