المتابع للمجتمع الموريتاني وتحولاته في الآونة الأخيرة يلمس تغيرا جذريا وانقلابات طالت التصورات و التصرفات في كثير من مناحي حياته ، لا سيما بعد الهزات والتطورات التي حدثت مع إقبال الشعب على وسائل التواصل الإجتماعي ، وهو ما أثار جدلا حول مدى قدرة هذا المجتمع على الصمود في وجه هذا الكم الهائل من الوسائط والمعلومات ، ومدى قدرة المربين على إيصال أبنائهم الطلاب والطالبات إلى بر الأمان المعرفي ، و مدى قدرة الأهل على ضبط إيقاع أبنائهم الفكري و المعرفي و الأخلاقي و هم الذين أصبحوا أسرى سلطة السوشيل ميديا والإعلام ..
من حيث المبدأ لا وصاية على عقل أي شخص ولا على قلبه ولا ما يحب وما يكره .. و لكن هذا الشخص هو جزء من منظومة يجب أن يتلقى الإعلام النقي ، و الوسائط الإجتماعية المحترمة التي ترقى بفكره و عقله ، ولكن هذه الوسائل هي سلاح ذو حدين ، فمن خلال التفاعلات التي تحدث ونوعية المواضيع التي تطرح و الوسوم التي تثار يمكن الحديث عن رأي عام يتشكل في ضوء كل ذلك
و في الحقيقة تبدو الآراء العامة التي تتشكل في هذه الوسائل تغلب عليها الغوغائية ، و الإشاعات و يشارك فيها كل من هب و دب ، فترى الشخص الذي لم يقرأ في الفكر و الفلسفة ينظر في القضايا الهامة و الحساسة ، وتجد من لم يدرس يوما قانونا ولا فقها ولا أدبا يصدع رأسك بالصراخ عن القانون والقضايا الفقهية الأدبية ، ومتابعوه بالآلاف و يشجعونه في كل ما ذهب إليه فيصيبه الغرور و يزدري أهل الإختصاص .
وفي ظل هذا الكم الهائل من المعلومات و مع قدرة أي شخص على الكلام في أي موضوع ، أصبح المجتمع يتلقى المعلومات من هذه الوسائط دون تثبت ، و بين عشية وضحاها أضحى بإمكان كل شخص أن يبث الذعر في المجتمع بإشاعة كاذبة أو يلقي التهم جزافا في مواجهة شخص فيشهر بالأبرياء ..
وفي زمن الكورونا أضحى للإشاعة وقعها الخاص ، و للمعلومات الصحية الخاطئة سحرها الذي لا يقاوم ، فأصبح الجميع أطباء ، يفتون في الصحة و يقدمون النصائح الطبية المغلوطة ، و في ضوء ذلك تعرضت كثير من الأسر لمضاعفات صحية بسبب تطبيق أفكار وصلتهم عبر الواتساب دون أن يستشيروا الأطباء ، ومثل ذلك حصل في الولايات المتحدة حين أطلق الرئيس الأمريكي دعابة ناصحا بحقن الجسم بمواد مضادة معينة ، تلقفها كثير من العوام ليطبقوها فكادت أن تودي بحياتهم .
يعني ذلك في ما يعني أن العوام حيث هم يتلقون الأفكار كل الأفكار والنصائح و كأنها حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. فهم لا يرفضون أي فكرة مهما كان مصدرها ، و لا يكلفون أنفسهم عناء البحث العلمي في أي مسألة ، بل يتقبلون كل فكرة ، و كل إشاعة ، وجميع النصائح ، فقدرة مجتمعنا على الصمود في وجه هذا الكم الهائل من المعلومات تتعلق أساسا بمدى وعيه و نخبويته ، و الوعي يمكن بثه ونشره عبر النخبة القائمة على التربية و التعليم و عبر المجتمع المدني بمختلف أطيافه ، فهو أبرز دور لنخبة المجتمع من علماء و مثقفين و إعلاميين و فاعلي مجتمع مدني و سياسيين .
ولعل الفئة الأكثر أهمية هي فئة الشباب باعتبارها في طور التكوين و التنشئة ، فلذلك هي حجر الزاوية في المجتمع لأنها المستقبل و الغد المشرق ، ولا يمكن تركها فريسة لمحتوى سيء لا يرقى بفكر ولا عقل ، ولا يساهم في نهضة أمة ورقيها ،
فهذه الفئة بدأت في الآونة الأخيرة بالإبتعاد عن جادة المعرفة و التعلم ، و أصبحت ضحية وسائل التواصل الإجتماعي ( فيسبوك _ تيك توك _ اسناب شات _ واتساب ) ،
و في الوقت الذي أصبح كل علم متاحا على الشبكة العنكبوتية ، فإن استغلال هذه الشبكة في كثير من جوانبه هو للترفيه و قضاء الساعات تلو الساعات في مالا يجدي .
والحقيقة أن وسائل البحث عن المعرفة والتعلم تطورت و هنا أقتبس جزءا من مقال : “المستهترون بالكتب”.. كيف تدمر موضة القراءة مفهوم المعرفة الحقيقي؟ : ” القراءة هي إذن مرادف للتعلّم، ولا يمكن لنا أن نحقق أي فائدة من خلالها دون التقيد بهذا المفهوم، ذلك لأن الكتاب في حد ذاته ليس كيانا مقدسا يجب أن نلجأ إليه كلما أردنا التحصّل على المعرفة، ولكنه نقطة في شبكة معرفية تفرّعت بصورة مذهلة في العقود القليلة الماضية، هنا أصبحت الكتب هي فقط إحدى وسائل التعلّم، ويمكن لوسائل أخرى على الإنترنت، كالمقالات الطويلة أو المحاضرات على يوتيوب أو المساقات، أن تشارك هي الأخرى في المهمة نفسها . “
ما أود قوله و التأكيد عليه أن وسائل على الإنترنت أصبحت في مهمتها تقوم بدور الكتاب قديما ، و حين نقول لشبابنا أن يتعلموا و يقرأوا فمعنى ذلك أن يبحثوا عن أي وسيلة يمكن أن تساعدهم في هذا الهدف .
ولعل ما تمر به البشرية اليوم من توقف حياتها ونشاطاتها و من إغلاق أكد على أهمية التعليم عن بعد و الإستثمار فيه .
وحين نوفر لأبنائنا فرصة التعليم عن بعد نكون قد ضبطنا إيقاعهم الفكري و المعرفي و الأخلاقي ، صحيح أنهم لن يكونوا نسخة طبق الأصل منا ، فهم خلقوا لزمان غير زماننا ،لكنهم سيكونون معبرين عنا و عن قيمنا المجيدة .
تلك القيم التي ليس منها بكل تأكيد بث الإشاعات و لا النيل من سمعة الآخرين والتشهير بهم ، و لا تضييع الوقت في المشاجرات و المشاحنات و الجدل العقيم في وسائل التواصل الإجتماعي ، ولا التعصب للأيديولوجية والرأي السياسي مهما بلغت وجاهته .