في تدوينة اخترت لها خلفية سوداء تعبيرا – كنت أحسبه أمينا- عن خلفيتنا التراثية التي تظلِّل الحديث المتعلق بالنساء بالسواد إهانة أو إشفاقا..!!
بعد عهد النبوة والعصر الراشديّ اختفت معالم المرأة الإنسان لتحل بعدها أنثى الغواية واحبولة الشيطان وقرينة السوء.. فكتب التفاسير ومعظم كتب الفقه والمرويات مترعة حد الثمالة بما يدين النساء بكل أصناف الجرائم..
وقد لا يتسع المقام لقراءة وتحليل جملة أسباب ذلك، تلك الأسباب التي كان معظمها مقسما بين دور المثاقفة وإحياء العهد الجاهلي، وكانت الفتنة الكبراء هي السبب المباشر لفتح الباب مشرعا .
وانطلاقا من ذلك كان كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي(450-505هــ)رغم جلالة قدر الرجل فقها وأصولا وفكرا فهو ثالث ثلاثة أضافوا الشيء العظيم للمدرسة الأشعرية بعد المؤسس أبو الحسن الأشعري وهم: البقلاني (402-338هــ)والجويني(478-419هــ) والذي ترك بصمة في الفقه الشافعي والفكر والأصول والتصوف.. إلا أن موقفه الحذر من المرأة كان جليا وطاغيا..!!
وصل الإمام الغزالي إلى بغداد في النصف الأخير من القرن الهجريّ الخامس يوم كانت تلك المدينة العظيمة تموج بالفتن والخلافات السياسية والصراعات المذهبية مقسمة بين القوة البويهية والسلاجقة في عهد ضعف الخلافة العباسية وهوان المناهج التعلمية..
فعندما أصبح أستاذا في المدرسة النظامية التي أسسها الوزير السلجوقي نظام الملك سنة 459. وليست تسميتها النظامية لها علاقة بمؤسس المدرسة العقلانية لإبراهيم بن سيار النظامي كما ظن بعض المفكرين لأن بغداد تلك الفترة ليست بغداد عهد المأمون.
تواصل عن قرب مع مختلف مكونات المجتمع الإسلامي طلبة وساسة ومثقفين ومتكلمين..
فرغم جلالة قدره العلمي تأثرت نفسيته بتناقض المناهج وضبابية الرؤية المنهجية والسياسية في بداية تحول فعلي وخطير للمجتمع الإسلامي نحو الضعف وتراجع العلوم العقلية..!
فجاء كتابه إحياء علوم الدين تعبيرا أمينا عن تلك الحالة النفسية التي عاشها بعد سنوات من العزلة تخللتها سياحة روحية دخل فيها الرجل دهاليز الشك وغياهب الروحانيات..
نعود لكتاب إحياء علوم الدين الذي أعجب به كثير جدا من العلماء والفقهاء ففيه يقول عبد الرحيم العراقي المحدث الذي خرّج أحاديث الإحياء: «إنه من أجل كتب الإسلام في معرفة الحلال والحرام، جمع فيه بين ظواهر الأحكام، ونزع إلى سرائر دقت عن الأفهام”.
وقال غيره: «من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء»، وكذلك كتاب “إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين” للزبيدي، و”تعريف الأحياء بفضائل الإحياء” لعبد القادر العيدروس(1038هــ)وكذلك “المغني عن حمل الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار لعبد الرحيم العراقي”.
أما في الوجه الثاني فقد تلقّى هذا الكتاب المثير للجدل طعنات موجعة وصلت حد التحريق والتضليل من أشهرها موقف علماء المالكية في الغرب الإسلامي:” وقد أقر الغزالي بضعفه في علم الحديث، حيث قال عن نفسه «أنا مُزجَى البِضاعةِ في الحديث». وأُلفت عدة كتب في الرد على الإحياء حتى وصل الأمر أن أُمر بحرق كتاب الإحياء في قرطبة بفتوى شهيرة من كبار فقهاء المالكية باتهامه بضعف الأحاديث التي أوردها وكذلك بكثرة الاسرائيليات. على عهد علي بن يوسف بن تاشفين ثاني أمراء المرابطين(فترة حكمه:500-537هــ).
وأنتقده جمع غفير من علماء العالم الإسلامي شرقه وغربه ومختلف مذاهبه منها مثلا: وقال عنه القاضي عياض: “والشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة والتصانيف الفظيعة، غلا في طريق التصوف…نقله الذهبي 19/327.”
وقال ابن الجوزي في “تلبيس إبليس”: (وجاء أبو حامد الغزالي فصنف لهم كتاب “الإحياء” على طريقة القوم، وملأه بالأحاديث الباطلة، وهو لا يعلم بطلانها..”
وكذلك أبوعبد اللّه المازري (ت537هــ) من شيوخ افريقيا وكبار أئمة المالكيّة يؤلف كتابه “الكشف والانباء عن كتاب الاحياء” ينتقده كثيرا، وقد لا يتسع المقام لاستعراض كل الردود التي انتقدت كتاب إحياء علوم الدين من الفقهاء أما الفلاسفة فموقف ابن رشد وابن طفيل معروفة.
ونختتم:” قال ابن تيميّة: إنّ فيه فوائد كثيرة، لكن فيه مواد مذمومة، وفاسدة من كلام الفلاسفة تتعلّق بالتّوحيد والّنبوة والمعاد..”.
عن تدويني التي أثارت حفيظة نفوس مريضة – شفاها الله بكثرة المطالعة وتنوع المصادر والمراجع – نقلتُ كلاما للإمام الغزالي حِلتُه لمصدره الأصلي وقد غاب عن أولئك الأخوة أن كتاب الإحياء حُقق مئات المرات وطبعته مئات المطابع وللتحقيق إشكالياته التي لا يعرفها إلا من خبَر المجال وهم قلّة من منْ يناقشنا اليوم في فضاء حر حدّ الفوضى ..!!
من أهم إشكاليات التحقيق عدم مطابقة بعض الطبعات لبعضها بسبب تلف بعض المخطوطات أو مواقف بعض المحققين من بعض الفقرات التي يتم حذفها عمدا.
وفي الأخير نعود ونجدد الدعوة للعودة لإحياء علوم الدين في جزئه الثالث باب آداب النكاح مطبعة البرهان للنشر لنستوضح جيدا تلك التهم والأوصاف التي حكم بها أمامنا حجة الإسلام على المرأة، فمن خلال هذا الكتاب صدرت أراء شخصية من مؤلفه كانت سببا في اختلاف الأراء فبين فوائده الكثيرة ومواده المذمومة جاءت ازدواجية التقديس والتحريق…!! .