انتهت الانتخابات الرئاسية المنظمة 7-8 نوفمبر 2003 بفوز الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطائع حفظه الله ب 67% من الأصوات المعبر عنها. يوم 10 نوفمبر ودعني برفق ومحبة، وقال: “محمد فال، لا تذهب بعيدا، أنت باق معنا” و أضاف بصوت خفي: “وجب قضاء فائتة”. قلت مبتسما : “مطلقا”، و خرجت.
وفي ليلة 12-13 نوفمبر حوالي الساعة العاشرة رنّ الهاتف، وإذا بصوت أخي معالي الوزير الشيخ ولد أحمدو حفظه الله، مدير ديوان الوزير الأول يخاطبني بعذوبة صوته و جماله وبشاشته.. “مرحبَ، مرحبَ.. وخيَرت، وخيَرت”.. أحسست بسروره وانشراحه وابتهاجه في الهاتف، و فهمت حالا أن وراء التلفون قصة مهمة. قال: “معالي الوزير الأول يقابلكم غدا إن شاء الله الساعة 9 صباحا، و أضاف “أنتم أول من نقابله”.. بما يعني ابرتوكوليا في ذلك العهد “وزارة الخارجيه والتعاون”. وفي الحال: تذكرت قول الرئيس: وجب قضاء فائتة، لأن البدء بوزارة الخارجية ترقية نادرة و ثقة عظيمة.
حضرت في الموعد واستقبلني معالي الوزير الأول اصغير ولد امبارك حفظه الله واقفا و مبتهجًا و مهللًا .. وبعد تبادل عبارات الترحيب والتهانئ، قال: أقترح عليكم و أطلب منكم قبول تولي حقيبة الشؤون الخارجية والتعاون في حكومتي المرتقبة اليوم أو غدا. قلت له : “شكرا معالي الزير الأول على الثقة، والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أسأل الله تعالى أن يوفقنا لما فيه خير البلاد والعِباد”. وما إن خرجت من المبنى متجها إلى البيت حتى عم الخبر .. يبدو أن بعض الصحفيين كانوا يراقبون حركة المدعوين والزوار..
أعلن عن التشكيلة الحكومية بعد ظهر الخميس 13 نوفمبر 2003. وبدأنا نستقبل حشود المهنئين بالمئات حتى وقت متأخر من مساء الأحد..
وفي صبيحة الإثنين دعاني معالي الوزير ، الأستاذ محمد ولد الطلبه حفظه الله مهنئا ومباركا التعيين، وطلب مني الالتحاق به في مكتبه بالوزارة .. و أرسل لي سيارته و السائق “انياس”. استقبلني معاليه بحفاوة وإكرام رفقة الأمين العام للوزارة المهندس إسلمو ولد محمد الطالب و السيد أحمد ديّ مسؤول المراسم. وكنت أسمع من بعيد صديقي “الحاج انگايدي” رحمه الله يرحب بصوته الجهور. دخلنا المكتب وبقيت منفردًا مع معالي الوزير محمد لمدة 60 دقيقة تقريبا. واستمعت جيدا لنصائحه و توصياته وخلاصاته القيمة حول أهم الملفات العالقة..
وجدت أهم وأقرب المواعيد الواجب التحضير لها فورا قمة المجموعة 5+5 المزمع انعقادها 6-7 دجمبر في تونس العاصمة.
عرضت ملف القمة على فخامة الرئيس ولكنه أمر بأن يكون أول خروج لي باتجاه دكار وباماكو. وبخصوص القمة، أعرض عن السفر و كلف معالي الوزير الأول بتمثيله شخصيا ورئاسة الوفد.
وصلنا تونس وبعد الجلسة الافتتاحية مباشرة، أشار علي الوزير مدير الديوان، الشيخ بأن معالي الوزير الأول يود مقابلة الرئيس الفرنسي جاك شيراك. طرحت الموضوع على الوزير الفرنسي “دومنيك دي فيلبان” (Dominique De Villepin )؛ رجل أنيق وطويل القامة وحسن الخلق وموطأ الأكناف. وكانت الابتسامة لا تفارق محياه منذ أن رأيته أول مرة في القاعة. شعرت أن شيئا ما يشدني إليه.. لعله موقفه الحازم من الحرب على العراق و خطاباته المدوية الرائعة في مجلس الأمن… طرحت عليه طلب اللقاء و بعد أقل من ساعة عاد إلي بالموافقة وبالموعد المقترح. وجرى اللقاء في أحسن الظروف. وفي مساء الليلة نفسها، قابلته في بهو الفندق. أخذنا قهوة وجلسنا على انفراد 40 دقيقة تقريبا قبل أن يلتحق بنا آخرون. قال لي بالحرف الواحد: “كنت أتمنى أن يأتي الرئيس “ولد تايا” لأقابله وأتعرف عليه عن قرب. لقد زاره الرئيس شيراك في نواكشوط 1997 ويحمل له مشاعر جميلة من الود والاحترام؛ ثم إن المعلومات المتوفرة لدي تشير كلها إلى أنه رجل شجاع وأنِف وأبي وقوي الشكيمة. وقد سمعت عن جلسة ساخنة جمعته بزميلي وزير الخارجية السابق، السيد “هبير فدرين” (Hubert Védrine) في موضوع العسكري الموريتاني الذي تم توقيفه من قبل القضاء في “مونبلييه” (Montpellier). حاول “فدرين” إقناعه باستقلالية القضاء في فرنسا وبأن لا علاقة للحكومة والدبلوماسية الفرنسية بملف الاعتقال، مشيرا إلى أن القاضي اعتمد على شكاوي تقدم بها مواطنون موريتانيون، وله الحرية في التصرف طبقا للقانون.. عندها بدأ الرئيس يرد بالكاد يخفي الازدراء والاستخفاف، وقال بهدوء:
“السيد الوزير، كان بإمكان فرنسا أن تعتقل كل جنود الدنيا على أرضها إلاّ الجندي الموريتاني! هل تتذكرون رد غاندي (Ghandi) على تشرشيل (Churchill) لما غضب هذا الاخير من سلوك محامي المعابد الهندوسية والمتمرد، نصف العريان”؟ قال مخاطبا بريطانيا العظمى: “نحن نريد نفس الحرية التي تريدها بريطانيا لنفسها ومواطنيها. وإن تشرشل يعتقد أننا غير مؤهلين للحرية، لكن ما فائدة الحرية إذا لم تسمح لنا بأن نخطئ، بل وأن نذنب”.