يوم 5 يونيو 1967، تغير كل شيء في العاصمة و في البلد عموما. خرج الطلاب من المدارس، وأغلقت الأسواق، ورفع الأذان، و تجمهر الناس في الشوارع حول الإذاعات.. لا صوت يعلو فوق صوت “إذاعة موريتانيا” من نواكشوط و”صوت العرب”من القاهرة. كانت موريتانيا حقا في حالة حرب. أمر الرئيس المختار ولد داداه [رحمه الله] بإلغاء برامج الإذاعة الوطنية مُطلقا لكيْ تبُث حصريا القرآن الكريم في أوقاته المُعتادة، و نشرات الأخبار، وما عدا ذلك مكرس 24/24 ساعة لبث البيانات العسكرية الصادرة عن الجيوش العربية، و أناشيد “فاغو”.. فقط لا غير!
خرجنا من الثانوية صبيحة يوم 6_6 واتجهنا بالمئات صوب السفارة الأمريكية مسلحين بالحجارة وحاملين لافتات منددة بالعدوان وبموقف الولايات المتحدة. ساعات طويلة من المناوشات مع الشرطة و الحرس الوطني. وفي اليوم الموالي، أعلن عن قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة وبريطانيا، وصدر قرار بطرد السفير الأمريكي واعتباره “شخص غير مرغوب فيه”.
وما إن سكتت المدافع حتى انطلقت حملة وطنية لجمع التبرّعات لصالح فلسطين، و تولى الرئيس شخصيا الإشراف عليها لتشمل جميع المدن و الأرياف على عموم التراب الوطني…و رغم صعوبة الأوضاع آنذاك، حيثُ لا طرقات معبدة، و لا هواتف ثابتة و بالأحرى منقولة، و لا فضائيات، و لا إذاعات جهوية، و لا أموال… رغم ذلك كلّه، فقد تكللت تلك الحملة بنجاح باهر..
في بوادي مقطع لحجار، كنت أسمع ليلا و نهارا عن التبرع لفلسطين..و عن هدية فلان و فلان و معاطي الفلاننيين..إلى أن وصلت البعثة خيامنا. رأيت عددا من الهدايا: بقر و أغنام و حمير و مفروشات و حلي نساء… ومن ضمن الهدايا جمل أبيض، طويل القامة، سريع الخطى يدعى بو اگليده” كنت أركبه و أجله.. كل ذلك لفلسطين أو على الأصح ل”بيت المقدس”..
رأيتُ بأم عيني كيف انتفضت المرأة في خيْمتها هناك…في مرابع آفطوط…بعيدا عن الادارة و الرئيس و الاعلام و السعي للوظيفة أو الترقية…لتجُود بأحسن و أجمل ما عندها من حلي و مفروشات لفائدة فلسطين..و رأيتُ بأم عيني كيف تسابق الرجال أداء للواجب الديني و الأخلاقي…و لن أنسى ذلك المشهد المهيب وكيف تكون النتيجة عظيمة، و رائعة، و مُبْهرة…عندما تقفُ “القمة” و “القاعدة” على قلب رجل واحد.
و باختصار شديد، أقول و بدون مُبالغة: إنّ ما عشناهُ في يونيو 1967 ..انتفاضة!
رحم الله السلف وبارك في الخلف.