يقع هذا الكتاب في حدود مائتين ونيّف من الصفحات (212) من الحجم المتوسط؛ وهو من منشورات وكالة الأخبار المستقلة في مشروع يهدف لتجميع ونشر ذكريات رجال السياسة الوطنية.
ويتناول الكتاب مراحل النشأة الأولى في نواذيبو؛ ودخول المدرسة النظامية وهو شيء أتى مصادفة من غير تهيئ أو تخطيط؛ ثم الانتقال إلى روصو للدراسة الإعدادية؛ ودخول الجيش بعد الحصول على الباكلوريا الرياضية؛ ثم مساره العسكري حتى الانقلاب على الرئيس المختار؛ وحضوره البارز في اللجنة العسكرية للإنقاذ؛ ثم إحكام القبضة على السلطة بعيد الرحيل المفاجئ لولد بوسيف (وزيرا أول ثم رئيسا)، ومحاولة قلب الحكم في 16 مارس 1981؛ وما يرى أنه انجازات كإلغاء الرق، وتحويل العطلة إلى الجمعة، وتشكيل الهياكل، ثم أيامه في السجن بعد الانقلاب عليه، وتفاصيل عن حياته بعد إطلاق سراحه، ودخوله السياسة من جديد في 2003، وأخيرا؛ محاكمته بتهمة تقديم دعم لفرسان التغيير.
وأبرز ما يطالعك في الجزء الأول من الكتاب هذه الحيوية والطاقة والاندفاع التي يتميز بها الشاب ولد هيداله، والذي يصل في بعض المستويات إلى حدود التهور ومخالفة توجيهات القادة وعصيان أوامرهم وخصوصا حينما كتب رسالة جواب غاضبة إلى قائد الأركان حينها ولد أمبارك فال يرفض اقتراحات التوجيه التي أرسلت بها القيادة إلى الطلاب المبتعثين إلى الأكاديمية العسكرية الفرنسية (سنسير). ورغم أن ولد هيداله يتكلم عن ظلم واستهداف من لدن قائد الأركان ولد أمبارك فال أثناء مباشرته للعمل بعد عودته، إلا أني لم ألحظ أنه قدم أي بيّنات واضحة على هذا الإدعاء.
عند اندلاع حرب الصحراء لم يتم استدعاؤه إلى جبهة القتال، وبقي حبيس المكاتب في نواكشوط ويقول إن ذلك استهداف متعمد له لسبب الطعن المجاني في ولائه للوطن؛ وأن لم يفت عليه ذلك. لكنه مع ذلك، واصل خدمته وتفانيه دون أن يركن إلى هذا. وتمت الاستعانة بولد هيداله في المجهود الحربي، فعيّن على آدرار في مرحلة أولى، وتتبع مقاتلي البوليساريو الذين كانوا يغيرون على أطراف الولاية، لكن دون تسجيل خسائر مؤكدة في صفوف العدو. ونفس الأمر تتكرر معه في أزويرات حينما أرسل إلى هناك، فلا تعثر في صفحات الكتاب على أن وحدته قتلت محاربا واحدا أو حتى جرحته، ويذكر ولد هيداله في كتابه أن مقاتلي البوليساريو يحملون قتلاهم وجرحاهم معهم، ولذا لم يتمكنوا من إثبات الخسائر التي يلحقونها بهم، إنما يظنون أنهم أوقعوا بهم بعض الإصابات وحسب.
وربما العمل الأكثر تميزا في أثناء الحرب الذي سجله ولد هيداله باسمه هو إنقاذه للطيار “كادير” حين سقطت طائرته بنيران مسلحي البوليساريو. ففي يومين متواصلين، قام أفراد وحدته بتتبع وتمشيط المنطقة وبشكل كثيف ودقيق حتى تم العثور أخيرا على الطيّار “كادير” وهو منهك وفي حالة شبه يائسة إذ كان أشرف على الموت وقد نال منه النصب والغصب.
كان ولد هيداله من الضباط المتحمسين للانقلاب، وقد أقلقه جدا وأفزعه تأخر التنفيذ الذي كان مقررا في الأصل أن يكون مساء الثامن من يوليو 1978 لدى اجتماع مكتب حزب الشعب. وأسند المنقلبون لولد هيداله منصب قائد الأركان، بعد جولة خيارات مع مناصب أخرى. يقول إنهم راودوه عن المنصب الجديد، لكن رفض كل الإغراءات وتمسك بمنصبه. وفي المشهد الجديد، هناك فوضى عارمة، وتشغت اللجنة العسكرية إلى أجنحة متصارعة. وتحس في الكتاب أن ولد هيداله فاجأه حضور وقوة ولد بوسيف في المشهد الجديد، بعد أن لم يك من المشاركين في الانقلاب، على الرغم من أن الأخير أعلى رتبة من ولد هيداله. وحاول مقاومة تسلمه السلطة إلى أنه أدرك سريعا أن العاصفة قوية فانحنى عنها حتى تمر.
في الفترة السابقة على تسلمه منصب الوزير الأول بعد سقوط طائرة ولد بوسيف، كان يتشكى التهميش وأنه لا يستشار في شيء، وأن محمد المصطفى ولد السالك أقدم على اتخاذ الكثير من القرارات دون استشارته وحتى علمه (يتحاشى ولد هيداله الكلام عن الأيام القليلة التي قضاها المرحوم أحمد ولد بوسيف على رأس السلطة التنفيذية، ولا أعرف إن كان ذلك نتيجة تعمد أو نسيان). واجتمعت اللجنة العسكرية بعد ثلاثة أيام فقط من فاجعة الطائرة وانتخبت ولد هيداله وزيرا أول، وانتخبت أيضا ولد أحمد لول رئيسا، لكن يقول ولد هيداله لم نشأ أن نذكر ذلك علنا، فقلنا إن ولد السالك استقال لأسباب خاصة به. وبدأ مسار ولد هيداله، ومن المفارقة أنه عمد إلى نهج وتطبيق نفس السياسة التي كان يأخذها على شركائه السابقين في اللجنة من إقصاء وتهميش وحتى ملاحقة وما يتبعها.
من الانجازات السريعة التي أنجزها ولد هيداله اتفاق الخنوع والاستسلام بغير شروط للبوليساريو في الجزائر بعد شهر من تسلمه الوزارة الأولى (5 أغسطس 1979). وفي معرض دفاعه عن الاتفاق يقول إنه أرسل مفاوضين اثنين وأنهما تصرفا من دون علمه وقبلا التوقيع من دون الرجوع إليه (وهذا طبعا عذر أقبح من ذنب كما يقال)، بما في ذلك البند السري الخاص بالانسحاب وتسليم المواقع لجبهة البوليساريو. وحاول ولد هيداله أن يسوّق الاتفاق في زيارته للمغرب (بعد أيام قليلة من التوقيع)، لكن المغرب تفاجأت من هذا التغير السريع واستقبلته بفتور.
ولم يتوقف ولد هيداله في مسار استسلامه لجبهة البوليساريو عند هذا، بل اعترف بكيانهم وبأسباب واهية وغير منطقية، فادعى أن المغرب تقيم جدارا على حدودها فيما يلي موريتانيا لصد هجمات مسلحي البوليساريو، وأن عليها أن توقفه، وإذا لم توقفه فإنه سيضطر للاعتراف بسيادة البوليساريو حتى يعترفوا هم بسيادتنا على أراضينا، وعندها فقط نأمن من تسللهم عبر أراضينا لمهاجمة المغرب. ثم لا يقف أيضا عند هذا، بل راح يدافع عن البوليساريو ويحشد لها الدعم، وقد طلب مرة من صدام حسين في زيارته للعراق أن يعترف بهم أو يدعمهم فرد عليه أنه لا يستطيع أن يتخلى عن 20 مليون عربي في المغرب، ويقايضهم بسبعين ألفا في الصحراء، فأسكته. وترى في حديثه عنهم ودا لهم وتعاطفا معهم، وهم الذي قال عنهم في كتابه إنهم أبادوا معسكرا موريتانيا في أوسرد من 200 مقاتل، فكيف تدعي أنك وطني وتدين بالولاء للوطن وأن تحامي وتدعم وتدافع من أباد أبناء وطنك؟
ويتبين لك أيضا من تجربته في الرئاسة أنه كان لا يتفحص الأمور تفحصا ذاتيا، فيقبلها أو يرفضها على هذا الأساس، فيذكر لك أشار عليّ فلان بكذا، فنفذته في الحال، ولا يقول لك أشار عليّ بشيء فرفضته ويعرض لك أسباب الرفض معللة. فلا أذكر أنه عرض في الكتاب توبيخا لأحد أو تعنيفا على فكرة أو رأي. ويعترف بخطأين اقترفهما وقد أشار بهما مستشاروه أو وزراؤه. أولهما؛ فقد توسطت السعودية في الخلاف مع المغرب، وأرسلت طائرة خاصة لتقله إلى الطائف ليجتمع مع الحسن الثاني. وكانا قريبين من اتفاق مصالحة وإعادة العلاقات، إلا أن إصرار ولد هيداله على أن يعترف المغرب بدعمه لانقلاب 16 مارس قد أفسد هذا الجهد. ويقول إن من أشار بهذا الرأي كان محمد المختار ولد الزامل، ولم يقل إنه سفهه أو حمقه على هذا الرأي. وانتكست هذه الفرصة بسبب تشدده في إنفاذ رأي آخرين لا خبرة لهم ولا رأي. ووقع نفس الشيء في رفض اعتماد السفير الأمريكي الجديد لسبب أن ديانته يهودية وحسب. ويعترف بهذا الخطأ أيضا، حتى أن وزير الخارجية الأمريكية جاء إلى نواكشوط للتوسط في الأمر، إلا أن ولد هيداله واصل إصراره على رفض اعتماده من دون أسباب مقنعة أو منطقية.
ولد هيداله أيضا في أيام حكمه كان شديد الانتصار للجهة وكان حريصا على أن تكون حاضرة في مفاصل الدولة، فكل وزراء الثقة من الشمال (ولد الطايع شغل في عهده منصب الوزير الأول ووزير الدفاع، وولد الزامل ودحمان ولد محمد محمود شغلا منصب وزير الخارجية في عهده…). ويعترف ولد هيداله ضمنيا بهذه في الكتاب لدى كلامه عن إرهاصات ما قبل السقوط. فقد انقسم النظام في عهده إلى فسطاطين، فسطاط يتزعمه ولد الطايع، وآخر يتزعمه مولاي ولد بوخريص. ويقول ولد هيداله إنه كانت تأتيه إشارات من كلا الفريقين في أن الفريق الآخر يحاول القيام بانقلاب. وقد كثرت خصوصا في الفترة التي سبقت الانقلاب، لكنه لم يعرها أي اهتمام، أو يأخذها على محمل الجد. فكان لكل من الفريقين توغل في مفاصل الدولة وخصوصا في أجهزتها الأمنية والمخابراتية، وكان كل منهما يتعمد إرسال تقارير توقع بالطرف الآخر. وهذا التخليط المتعمد من الفريقين وعدم قدرة ولد هيداله الذاتية على تبصر خيط الحقيقة أدى إلى هذا السقوط الذي ربما لم يك مفاجئا للذين كانوا حاضري تلك الأيام.
كتاب هام يسرد مراحل مهمة من تاريخ الدولة، وولد هيداله كان صريحا وصادقا وعلى سجيته من غير مواربة أو تمثيل أو تقمص أدوار. وربما من الدروس المهمة التي نستفيدها من مطالعة الكتاب أن الحكم الجماعي أو حكم اللجان العسكرية أو حتى المدنية يضعف الدولة ويوهن كيانها. فطوال ما يقرب من عام لم تستطع الدولة أن تقوم بأي عمل بسبب الصراعات بين أعضاء اللجنة. حكم المستبد والطاغية أفضل بكثير من حكم اللجان، فهذا رجل واحد سيقوم إلى عمله أو لا يقوم؛ وينفذ برنامجه أو لا ينفذه، أما المشتركون في الحكم فلا يعملون ولا يتركون أحدا منهم يعمل.