تمكنت وزيرة الشئون الاجتماعية والطفولة والأسرة، ورهطها، وبدعم قوي من وزير العدل، ورهطه، تمكنوا خلال اجتماع مجلس الوزراء يوم الأربعاء 13 رمضان 1441هـ. الموافق 6 مايو 2020 م، من إجازة نسخة معدلة من قانون النوع (Genre-Gendre) سيئ السمعة، وقد استبدل فيها عنوانه الأصلي، فبات “قانون محاربة العنف ضد النساء والفتيات” ثم تخلي محرروه عن أكثر القضايا نكارة في مشروعه الأصلي، ومهدوا له بسرد عشرات الآيات والأحاديث المبتورة من سياقاتها، والمحمولة على غير محاملها، وضمنوه مفاهيم ومشمولات أخرى، بينها عدد من مواد القانون الجنائي الموريتاني؛
القانون المثير للجدل والخصومة، كان قد أطل علينا بوجهه الحقيقي الكريه، مرتين، في نسختين متتاليتين، وكان عرابوه ينجحون في كل مرة، كما في هذه المرة، في تمريره في اجتماع الحكومة، ليقدم إلى البرلمان، لكن نواب هذا المجتمع المسلم وممثليه، تصدوا له باقتدار وشجاعة، وبتضامن عابر للانتماءات الحزبية، وخنادق الموالاة والمعارضة، ليتم سحبه في كل مرة، تتبعه لعنات الصالحين، وسخط المجتمع بكل فئاته، بسبب مخالفته الصريحة والوقحة للإسلام، كتابا وسنة وإجماعا وحدودا وقوانين وأحكاما فقهية؛
لم يضع سفراء مسخ القيم عصيهم عن عواتقهم، لا في المرة الأولى، ولا في الثانية، بل واصلوا تصميمهم وترصدهم للسانحة المناسبة، لشن الغارة به من جديد، على أسوار وجدر الحصانة الدينية للمجتمع، فكانت جائحة كورونا وما اكتنف المجتمع من تداعياتها وإكراهاتها، فرصتهم الذهبية لدس منتجهم الرديء، في منظومتنا التشريعية، في غفلة من الناس، وعلى حين غرة، وقد تفننوا في تشويه معالمه، وبالغوا في إخفاء قسمات وجهه الغريب، وإظهاره على غير حقيقته، وإلباسه مسوح الخير والوعظ والصلاح، في عملية أشبه بدور ممثل هاو، في حفلة تنكرية؛
مشروع قانون النوع، في نسخته الجديدة وباسمه الجديد، يقدم للمشرع الموريتاني، وللمرة الثالثة، مختلفا عن سلفه كثيرا، على مستوى الشكل والألوان والأصباغ، لكنه ينوء بأثقال من التهم والشبه، من أمثلتها:
- تهمة الاستغفال وشبهة التوقيت: فلقد جاء مشروع القانون متسللا، تحت جنح الظلام، في ذروة الانشغال محليا بوباء كورونا، وتداعيات حالة الإغلاق والحظر الاحترازي، حيث لا متسع للتفكير في غير الضرورات الحياتية؛ كما جاء و الشغل الشاغل للعالم كله، تتبع أعداد الإصابات، وهي بالملايين، والوفيات وهي بمآت الآلاف، وقد أصيب بالشلل الكامل، وتوقفت برامجه وخططه وسياساته وأولوياته، وتعطلت كل المناشط والمدارس والمسارح ودور العبادة والملاعب والأسواق، وسدت الحدود والمنافذ، وتهاوت البرص والشركات والأسواق والاقتصاديات؛
في مغبة تلك الأزمة العالمية الصاعقة، تسلل سفراء الدوائر المعادية وعرابو القانون المتهم بإشاعة الفاحشة، وإلغاء القوامة، وتدمير القيم الأسرية الحميدة؛ فقدموا، على حين غرة، مشروعهم في طبعته الثالثة، بعد أن رد على أعقابه مرتين، فأجازوه من خلال مجلس الوزراء، في اجتماع استثنائي، في ظل أزمة تشبه حالة طوارئ، لتتم إحالته إلى برلمان شبه معطل بسبب الأزمة، حيث تقتضي الإجراءات الاحترازية فيه ألا يحضر الجلسة العلنية أكثر من خمس النواب، وهي فرصة نادرة للعابثين بالتشريعات الوطنية؛ حتى إذا ما اجتاز المجتمع أزمته، ورحلت الجائحة، وأعاد المجتمع تحسس قيمه ومقوماته وجد نفسه مكبلا بقانون ملزم لا يمت بصلة لدينه أو خلقه أو مصلحته.
- شبهة لعبة النازلة الخطيرة، وهي وسيلة قذرة، طالما استعملتها بطانة السوء في مختلف النظم، وخاصة في نظام العشر الشداد، حتى باتت ماركة مسجلة باسمه، وخلاصتها أن تعمد تلك البطانة إلى طرح “نازلة” خطيرة تشد الانتباه شدا، كلما حزبها أمر جلل، أو تفاقمت من حولها الأزمات والإشكالات، فاستقطبت اهتمام الناس، وبلغ السخط الشعبي منها أوجه؛ وعندئذ تصرفهم النازلة الخطيرة، وتستحوذ على تفكيرهم، وتشغلهم عن واقعهم المر وأزماتهم وإشكالاتهم، مانحة فرصة ذهبية لغيلان الفساد، لتجترح، في غفلة من الناس، حلولا تناسبها وتربي في أموالها وحساباتها؛ حتى إذا ما تم لها ما أرادت، عادت فاستصدرت قرارا من رئيس الجمهورية بالاستجابة لنبض الشارع، وسحب النازلة من التداول، مما يفتح موسما لشرح وتعميم بواعث وفوائد ” القرار الحكيم، والإنجاز التاريخي العظيم”؛
- شبهة المسخ والاستلاب، فالنص المقدم في هذا المشروع، مهما تفنن المتفننون في صياغته، ومهما حاولوا من إخفاء وجهه القبيح، ومهما تقدم نسخته الحالية من آيات وأحاديث، جاءت مباينة لسياقاتها وأحكامها وتوجيهاتها ومواعظها، ومهما تخلله من سرد غير متجانس، لقائمة الحدود الشرعية المتضمنة في القانون الجنائي الموريتاني منذ مطلع الثمانينات، والمعطلة بقرارات رسمية فاجرة، عمرها بضع وثلاثون عاما، تم اتخاذها استجابة لضغوط غربية او شرقية، ومهما أحسنا الظن بمن صاغ، ومن أمر، ومن قدم؛ فإنه حين يسفر عن وجهه، لا يكون غير قانون النوع (Genre-Gendre)؛
قانون النوع، وما أدراكم ما هو، أحد القوانين الوضعية الفاجرة الخاسرة، التي تبنتها الأمم المتحدة، بضغط من قيادتها الخالصة للذين كفروا من أهل الكتاب، وقد تضمنته اتفاقية دولية خاطئة كاذبة، فرضت تلك الدوائر على العالم الانتماء إليها، تحت طائلة العقوبات والحصار الاقتصادي والسياسي والأمني، ورفضت التحفظ على بوائقها، ثم فرضت إلغاء التحفظ على صغائرها؛ أما مضمونها وهدفها المعلن الصريح الذي لا لبس فيه، فهو تقنين الفاحشة بالتراضي بين المراهقين، من مواطني العالم، بعد الحجر على سن الزواج، والسماح بالمثلية من إتيان الذكران الذكران، وإتيان النسوان النسوان، والسماح بحرية تغيير الجنس والنوع؛
- شبهة إلغاء قوامة الرجل، ومسئوليته عن أسرته؛ تربية وصونا وإعدادا للحياة الكريمة، في استهداف صارخ لتدمير الأسرة التي هي البنية الأولى للمجتمع الإسلامي، وهي مصيبة لم يستطع من حرروا المشروع طمسها أو إخفاءها، فجاءت فيه نصا بالمقتضى؛ طبعا، كيف لا وابنة الرجل وزوجته وأخته، وكل أنثى له عليها ولاية بنص القرآن أو الحديث، يحق لها بمقتضى القانون المعروض على برلمان دولة مسلمة، أن تمارس حريتها بلا قيود، فتخرج متى شاءت، وتلج كل باب، وتعاقر ما أرادت من الخبائث بلا حسيب ولا رقيب، فإن منعها أو نصحها أو وعظها أو توعدها، فإن القانون يسلط عليه إحدى المنظمات فترفع عليه دعوى وتجرجره في السجون وتلزمه الغرامات المالية؛ فأي معنى بعد ذلك للأسرة؟
لا أحد في هذه البلاد يعارض حماية النساء عامة، والفتيات خاصة، عند، وتحت سن البلوغ، من العنف، وجرائم الاغتصاب، وأنواع العدوان الذي يستهدفهن في النفس والعرض والدين، وصحيح ان منسوب تلك الجرائم القذرة المنكرة، عرف تفاقما غير مسبوق، منذ بعض الوقت، منذرا بانفلات خطير؛ لكن من الصحيح الذي لا مهرب منه أيضا، أن المشروع يطالب بعقوبة للمغتصب أخف كثيرا من العقوبة المرصودة له في القانون الجنائي(!) وصحيح كذلك أن مشروع القانون يجرم الاغتصاب، لكنه لا يجرم الزنى(!) ومن الصحيح الذي لا مهرب منه، أن الحدود والزواجر الشرعية، والعقوبات التعزيرية المقررة في القانون الجنائي الموريتاني، معطلة بالكامل، منذ عقود، وبإرادة، دافعها الطمع، وربما الخوف، من السلطات المتعاقبة، وإلا لكانت روادعها وزواجرها تحقق ما لا يتوقع أن يحقق ثلثه قانون النوع المتسلل إلينا تحت عباءات التنكر
.
أخيرا يبدو مشروع القانون، هذا، سيئ الحظ، وهو يعود اليوم متنكرا، إلى بوابة ألفها كثيرا، هي بوابة التشريع، حيث قرعها مرتين، خلال العشرية العجفاء، إحداهما تنازلا للضغوط الدولية المشككة في شرعية النظام، أما الثانية فجاءت كنازلة لشغل الجماهير المقيمة في الشوارع والساحات احتجاجا على استشراء الفساد، عن ملاحظة ضروب منه غير مسبوقة، لم تخطر لأحد على بال؛ لكن المشروع يزور البرلمان اليوم في الوقت الخطأ، فقد تغير بعده الكثير، منذ زيارته الماضية التي رد فيها على أعقابه، كسابقتها؛ فالنواب في الجمعية اليوم غير النواب، والسلطة التنفيذية التي تدير البلد غيرها، على الأقل في قيادتها (رئيسها ووزيرها الأول)، وفي برنامج حكومتها، وفي وعودها وتعهداتها، وفي انشغالاتها وأولوياتها، وفيما يعقده الناس من آمال عراض عليها.
وقد تزامنت عودته اليوم، مع انشغال الناس بتداعيات وباء كورونا، وفي ظل أولويات رسمية تستهدف سلامة النفوس ورعاية المجتمع وكفايته وإحاطته؛ فهل لانشغالنا معنى بقانون لا يلائمنا، عاملناه بالصدود مرتين، في ظروف أكثر سوء، وقد بدل جلده اليوم، وغير بعض عناوينه ومصطلحاته، ليعرض نفسه من جديد على البرلمان الموريتاني؛ صاحب الكلمة الفصل في قبوله أو رده على أعقابه؟
ما نحن على يقين منه هو أن في عنق رئيس الجمهورية عهدا وذمة وبيعة على الطاعة في المعروف، و”للعهد عنده معنى”، وهو يعلم أن هذا القانون منكر لا معروف، وإخلال بالعهد والميثاق؛ ثم وأن بالجمعية الوطنية نوابا يمثلون شعبا أبيا؛ قد يكون فقيرا وضعيفا ومتخلفا، فهو بضغط تلك الصفات قد يتساهل في استيراد عيشه وملبسه ودوائه وسلاحه، بل وكل ما قصر به تخلفه عن إنتاج كفايته منه؛ لكنه شعب لا يتساهل ولن يتساهل في استيراد قيم الدين الإسلامي، من مجتمعات تعاديه وتكيد له ولأهله