دقة الأخبار
آراء ومقالات الأخبار

رحيل زهور الياسمين..

هل يموت الذي كان يحيا

كأن الحياة أبد .. وكأن الشراب نفد

وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد

ليت ” شيماء” تعرف أن البنات الجميلات

خبّأنها بين أوراقِهن

وعلّمنها أن تسير

ولاتلتقي بأحد. 

 مع الاعتذار  لرو ح  الشاعر الجميل  (أمل دنقل) في التصرف في نصه الشعري،  لعيون “أم شيماء”

…………………………………………………………..

وكأننا بها  اندسّت بين أنسام  عطر الياسمين لتنزل علينا  فوح مسك..و ندىً.. وربيع

ولعلها  تسربت  برهة  ضوءٍ، ذات قمر  ساطع ..

في صبيحة الحادي عشر من ابريل 2020م  داهم  المجتمع الإرتري  بالمملكة المتحدة، إحساس فاجع  برحيل أحد فراشاته الجميلة، كأنما كانت  كأجنة الفراش على موعد مع ضوء الشمس قبل المغيب ..  فكان الفقد لنا، وكان لها  طيب الرحيل ..

كان خبر الرحيل المفاجئ  مدوياً كوقع الصاعقة .. إهتزت له كل المسامع والأرجاء، والجهات من أفراد وجماعات ومنظمات العمل الخيري والإنساني الإرترية والبريطانية، التي خبرت خطوها وضجيج نشاطها الدؤوب .. حزناً وألماً على هذا  الرحيل المر – لأنها  لم تكن شخصاً عاديا – تفتقت  نبلاً وأصالة في خدمة العمل الخيري والإنساني ودروب العلم والمعرفة بقدرة نادرة،  قل أن نجد لها مثيلاً بين أقرانها،  حيث كان حبها للعمل والعطاء مشيئة جينية تجري في دمها.. ولم تكن تمارسه  بدافع الواجب، بل  بحب وشغف  مؤصل  في طبعها،  ومقترن  بروحها الفريدة.

هي الناشطة منى مصطفي عبده ولدت  في السودان في العام ١٩٧٦م، وفي ثمانينيات القرن الماضي انتقلت الأسرة من السودان إلى المملكة العربية السعودية ومنها إلى كندا، ثم انتقلت أم شيماء إلى المملكة المتحدة واستقرت بمدينة لندن، ولديها من الأبناء شيماء وحمزه وثلاث أخوات أُخر.

حتى هنا تبدو قصة حياتها عادية مثل كل الأُسر الإرترية المناضلة التي ضحت بالغالي والنفيس من أجل إستقلال إرتريا، واضطرت في النهاية إلى الهجرة، إلا أن الغير عادي هو ما نحاول رصده هنا من شهادات من عرفوها عن قرب ورافقوا تجربة حياتها العامرة بالحب والعطاء.  

فور سماع خبر رحيلها دُبجت عنها الكثير من المقالات الباكية،  واندهش من لا يعرفها وتسآلوا كيف يمكن لإنسانة قدمت كل هذا الخير ولا يعرفونها ؟؟ متناسين قول رسول الله صلي الله عليه وسلم في حديث سبعة يُظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه .. فذكر الحديث، وفيه : “ورجلٌ تصدَّق بصدقةٍ فأخفاها، حتى لا تعلم شمالُه ما تُنفق يمينه” ، هكذا كانت “أم شيماء” تخفي أي عمل انساني او مجتمعي قامت به، وعندما رحلت إنهالت شهادات الجميع عنها من مختلف مدن العالم، فأشهدوا الناس أجمعين بأن (منى) بشر  يدنو من مرتبة الكمال .

كانت لها أدوارها الإجتماعية وتواصلها الحميم في شئون وشجون مجتمعها الإرتري  وإشكاليات اندماج الجاليات في المجتمع البريطاني، ومشكلات تعليمهم، وانصب إهتمامها بشكل كبير على مساعدة القصر من اللاجئين، ومدت لهم يد العون بتخصصيه عاليه وإنسانية حقه، خاصة أولئك المحرومون من حنان الأُمومة ودفئ البيت، وعملت على توفير الحماية الأسرية لهم .. ومساعدتهم ماديا واجتماعيا .. فكانت لهم نعم الأخت والأم والسند. ولم تألوا جهدا في نشر قضيتهم والدفاع عن حقوقهم اينما حلت وارتحلت. ومن أبرز القضايا الانسانية التي دافعت عنها أمام البرلمان البريطاني، المطالبة باصدار تشريع يلزم الحكومة البريطانية بإعادة توطين الاطفال اللاجئين.

وكما هو معلوم فإن موضوع العمل العام في مجتمعنا الإرتري  ضعيف جدا، وتبدو محدوديته حتى في مجتمع الرجال،  ناهيك عن السيدات  بكل ما لديهن من مسئوليات  تتعلق بتربية الأطفال وتلبية مطالبهم، لكن “أم شيماء” كانت استثناءً، فقد ظلت تعمل بصبر وإصرار لنشر الأمل والإيجابية داخل مجتمعها وفي معسكرات اللاجئين بشرقي السودان.  بذلك تعتبر بحق وجدارة أيقونة العمل الإنساني والإجتماعي العام، وكانت مسيرتها تبشر بميلاد وديمومة هذه الأعمال الواعدة، من خلال حركتها ونشاطها الدؤوب واستعدادها الفطري للمساعدة وبذل المال والجهد والتوجيه والنصيحة. وبغيابها المؤلم تنطوي صفحة هامة من صفحات أهمية العمل الاجتماعي والحقوقي في المجتمع.

ومع كل مسئولياتها المذكورة أعلاه، لم تهمل تعليمها حيث أفردت مساحة للتحضير لدرجة الماجستير في تخصص (الصراع والهجرة والامن البشري) في جامعة شرق لندن، إلا أن القدر لم يمنحها براح الزمن الكافي لإكمالها، والتي كانت أحد معاولها التي تعدها لفتح ثغرة في الجدار  لترسل نور المعرفة والتغيير للأفضل والأجمل  والأنقى، نقاء روحها المتطلعة.

لقد إختار الموت أجملنا .. فهي إمرأة ذات مواصفات عالمية ، حساً ..ورهافةً.. وعطاء

خبرت الحب في أبهى صوره وتخطت حواجز العرق والثقافة واللون والدين واندمجت في العديد من الثقافات الأفريقية والأوروبية .. عشقت موريتانيا (نواكشوط) وأثبتت إن الوطن لم يكن يوما بقعة تحدها  حدودا من صنع الإنسان بل مدىً  يتغلغل في حنايانا ويصبح جزء أصيل منا.

في آخر كتاباتها في صفحتها وبعد الإغلاق التام للمدارس بسبب جائحة الكرونا تمنت أن تكون في  نواكشوط مدينتها المحبوبة وقالت:  

“كم تمنيت في هذه اللحظة أن أكون في نواكشوط…لكن من كثرت خوفي عليها سأبقى هنا… لكي لا أكون سبباً في نقل العدوى إليها، ففدتها بروحها”.

وفي جانب آخر، وخلافاً لعادات مجتمعاتنا وأعرافه جاهرت (منى )  بشغفها لشريك حياتها، وتفانت  في إسعاده وإسعاد فلذات أكبادهما الخمس، وأصبحت جزء من ثقافته .. وتماهت مع جمال روحها الوثابة التي لا تكبلها قيود في تفاصيل الطقوس الثقافية الزاهية  بتلقائية متناهية .

وبرحيلها انطفأت شعلة لم يلق  الكثيرين بالا لروعتها.. فأن تكون امرأة، وزوجه، وأما لخمس من الأبناء، وطالبة دراسات عليا، وموظفه، وناشطه سياسيه واجتماعية، ومعلمة ومصورة ، وكل ذلك في حزمة واحدة، لابد أن تكون شخصاً غير عادياً..  ومتميزاً بقدر  مهيب .. باختصار هي المرأة في اروع وأصدق وابهى تجلياتها الانسانية. مذكرةً إيانا بإخفاقاتنا ومحدودية نظرتنا للحياة .. تنظيم الوقت .. الاستخدام الامثل للطاقة البشرية .. انكار الذات .. وقبل كل شيء شلال نهر الحب المتدفق في جنباتها الذي أحال كل شيئ ممكنا، ولامكان للمستحيل .. فكانت مثالاً للتفاني والصدق والإخلاص والطموح والعطاء، والقدوة بامتياز.

ولاغرابة أن تتمتع الراحلة (منى) بكل هذه الصفات الحميدة لأن نفسها قد جبلت على العطاء  والتضحية.. فهي  سليلة أسرة معطاءة وهبت نفسها وحياتها لقضايا شعبها، فالوالد هو المناضل الشهيد مصطفى عبده الذي التحق بجبهة التحرير الارترية في بواكير شبابه، وظل يعطي ويهب بإخلاص ووفاء، ووالدتها هي  المناضلة رمانة صالح  التي  ضربت أروع الأمثلة  في التضحية والفداء، وبعد استشهاد شريك حياتها لم تستسلم للاقدار بل ظلت  كعهدها تكافح  مواصلةً الانجاز في الحياة.

طوبى لمن رحل عن دنيانا وهو يحمل كل هذه الصفات وهذا الإرث النبيل في خدمة قضايا الخير  والإنسانية، دعما وعطاءً  بلاحدود.

ولايسعنا إلا أن نقول: “لله ما اعطي ولله ماأخذ”  مسلّمين بقضاء الله وقدره، سائلين المولى عز وجل أن يتقبلها قبولا حسنا ويجعل الجنة مثواها مع الشهداء والصديقين، بقدر معين عطائها الذي لم ينقطع، ويجعل قبرها روضة من رياض الجنة،  ويلهم اسرتها وذويها ومجتمعها، ويلهمنا جميعا جميل الصبر والسلوان على هذا الفقد العظيم، علّنا نجد العزاء فيما تركته لنا من إرث جميل .

و انا لله وانا اليه راجعون  

روابط ذات صلة

قرعة شباب العرب تضع موريتانيا إلى جانب الجزائر و مصر و النيجر

ahmedou bewbe

ولد بوحبيني: توقيف ولد غده عقاب سابق لأوانه ومخالف للقانون

abdellahi ahmedsalem

نواكشوط.. عرض حول التقرير المؤقت عن خصائص المستنقعات في البلديات

abdellahi ahmedsalem