الزعيم والوزير ورجل الأعمال الصالح ورب الأسرة المثالي عبد الله ولد إسماعيل في ذمة الله!
إنها حقا بداية أفول جيل ليس كالأجيال!
جيل متميز جدا، ومتمرد جدا.. ومختلف جدا، ورائد بما في الكلمة من معنى!
جيل لم يعرف للطفولة طعما ولا معنى؛ فقد شبَّ باكرا عن الطوق وقطَّع التمائم، وعاف التقليد، ونبذ التبعية والخنوع، وخاض بعنفوان وشجاعة وعزم معركة القضاء على الاستعمار الجديد، وتحقيق استقلال وعزة وشموخ موريتانيا الوليدة، وقاد ثورة ثقافية لا مجاملة فيها على العبودية والإقطاعية والتخلف والانحطاط!
عبد الله ولد إسماعيل رحمه الله كان أحد رواد ذلك الجيل!
تاريخ ومحل الميلاد ودخول المدرسة المتأخر
ولد عبد الله ولد محمد محمود ولد سيدي ولد إسماعيل – رحمه الله- سنة 1940 في تجگجه وإن صدرت أوراقه المدنية من المجرية. وفيها زاول وأنهى المرحلة الابتدائية من التعليم النظامي في ثلاث سنوات بعد أن التحق بالمدرسة في سن متأخرة حاملا نصيبا وافرا من التعليم الأهلي أساسه القرآن العظيم وشيء من اللغة. وكان دخوله المدرسة دون علم وإرادة أسرته؛ بل بفضل مبادرة من رجل عصري فاضل وحكيم ومعلم من أهله هو السيد محمد الأمين ولد الأغلال رحمه الله.
ودخل معه المدرسة في نطاق تلك المبادرة الموفقة، وفي نفس سنه، رائد آخر من رواد ذلك الجيل وزعيم ووزير هو ابن عمه وصديق عمره ورفيق دربه حتى النهاية المصطفى ولد اعبيد الرحمن مد الله في عمره، فنجحا في الابتدائية معا، وزاولا تعليمهما الإعدادي في مدينة روصو والثانوي في انواكشوط معا؛ حيث خاضا أول امتحان باكالوريا يجري في انواكشوط (السنة الدراسية 1962 – 1963) وسافرا معا إلى فرنسا لتلقي دراساتهما العليا!
ولدراستهما في روصو وانواكشوط حكاية أخرى! كان امتحان ختم الدراسة الابتدائية يجري على مستوى اتحاد إفريقيا الغربية، وكان المتفوقون يخيرون بين ثانويتي داكار وسان لويس. وتم تسجيلهما في ثانوية دكار. ولكن نظامها الداخلي سرعانما أرهق البدويَّيْن الصغيرَيْن وقيد حريتهما وعكر صفوهما فغادراها إلى سان لويس! وفي سان لويس وجدا نفس النظام في انتظارهما، فرحلا ينتجعان الحرية إلى روصو، ومن روصو إلى انواكشوط!
يقول المصطفى ولد اعبيد الرحمن عن هذه المرحلة من عمرهما: لم يكن من الجائز أو المقبول الحديث في أسرتنا الواحدة عن دخول المدرسة، وكنا نتردد على “مرابط اللوح” (الكُتّاب) ومن اللوح إلى اللعب.. واللعب فنون وجنون؛ لحد أننا كنا نصعد الجبل لمبارزة القردة التي نرميها وترمينا بالحجارة! وكنا نغتنم كذلك فرصة خروج حاكم المجرية الفرنسي وحراسه إلى الشارع فنمطره بوابل من الحجارة ونجري ونختبئ في مطاردة مع الحراس تطول تارة وتقصر أخرى! وذات مساء جرى مشهد الهجوم على الحاكم والمطاردة التي تعقبه أمام عيني ابن عمنا الفاضل المعلم محمد الأمين ولد الأغلال؛ فما كان منه إلا أن ألقى القبض علينا متلبسين؛ وأخذنا فورا إلى المدرسة وسجّلنا فيها! وبدأ يعطينا دروس تقوية خارج الفصل! ثم اشتركنا كمستمعيْنِ حُرَّيْنِ صغيرين في حلقات دراسية للنحو كان يحييها الشيخ محفوظ ولد جار الله لكل من السيدين الفاضلين محمد محمود ولد إسماعيل والد عبد الله، ولمرابط ولد محمذ الذي كان لي بمثابة الأب رحمهم الله جميعا! وكان من نتائج مبادرة محمد الأمين ولد لغلال استسلام أهلنا للأمر الواقع، وتجاوزنا إلى الإعدادي في ثلاث سنوات!
ويضيف الفقيد – رحمه الله- عن تلك الفترة أنهم كانوا يتوقون لغير المألوف لدرجة أنه كان يمشي خلف الشاحنة التي تتسلق هضبة “أشتْفْ” بصعوبة وبطء واضعا أنفه قرب فوهة تصريف عادمها Echappement يستنشق بلذة وتحد الغاز المنبعث منه!
وفي تلك الحقبة تلقى من بين ما تلقاه درسا في القضاء والقدر لا ينساه أبدا! إذ بينما كان في مطاردة مع أحد أقرانه في ساحة المدرسة ضُحًى أثناء راحة الفصل وكانت تتقاطر زخات مطر، وكان يكاد يمسك زميله من كتفه، نزلت صاعقة أردت صديقه فورا وتداعى هو مغشيا عليه قليلا! ومن يومها تأكد أن الآجال بيد الله، وكل شيء بقضاء وقدر! {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا}! ولعل هذا الدرس كان سببا من أسباب شجاعته وثباته وبرودة أعصابه وصبره الذي لا حدود له؛ يضاف إليه ما ترسب في قرارة نفسه من حِكَم بالغة تكاد تنقرض اليوم في مجتمعنا الجانح مع الأسف!
يقول الفقيد، وقد طلبت منه إحدى بناته الفاضلات أن يحدثهن عن طفولته: “كنا نلعب لعبة التحدي التالية: كان يأخذ أحدنا شهابا، فيذهب به إلى قلب المقبرة ليلا، ويثبته فيها ويعود، فيذهب آخر إلى حيث وضع الشهاب ويأتي به! ومن خلال أدائهما للمهمة وسلوكهما والأعراض التي تنتابهما نقوِّم شجاعة أقراننا”! سألته البنات: “بابا ألم يكن ينتابك الخوف أثناء مشاركتك في هذه اللعبة”؟ فيرد: ينتابني الخوف جدا ويقشعر جسدي، لكنني لا أرجع عن الهدف، لأني أتذكر دائما قول أبي رحمه الله: “نحن لا نخاف إلا من النار”!
وقد صار هذا القول مبدأ وشعارا لهذه الأسرة الكريمة! إلى جانب قول آخر مأثور للفقيد نفسه: الصبر أكبر وأكثر من جميع حوادث ونوائب الدنيا!
يتبع