أن الكثير من زعماء العالم الثالث لايقرؤون التاريخ بالمفهوم العملي لاستخلاص العبر من صيرورة التأثير والتأثر ؛ وما قد ينتج عن ذلك من واقع له أساليبه الخاصة ومتطلباته المبنية بالضرورة على قاعدة من المتغيرات؛ ذات الطابع التفكيكي والارتدادي في الآن ذاته؛ فغالبا ما يدفعهم غرور السلطة لنهايات تختلف فصول قصصها؛ لكنها تجتمع في نهايات متشابهة في معظمها.
ويعتبر تاريخ رؤساء موريتانيا نموذجا لنهايات مأساوية لا تأخذ العبرة من تراكمات الأحداث التي صنعت قصة الوصول للسلطة؛ وكانت السبب المباشر في الخروج منها بالقوة في أغلب الأحيان .
كان حرص الرئيس الراحل المختار ولد داداه على تحقيق وحدة أرض البيظان الكبرى كفيل بنقله من قصر نواكشوط إلى أوضاع مأساوية في ولاته؛ تحدث عنها بتفصيل مؤلم في مذكراته؛ خصوصا بعد إصراره على خوض حرب الصحراء وتقديم تنازلات لامحل لها في قاموس الأمن القومي في اتفاقية مدريد 1975.
فتحت عنوان العلاج في الخارج بدأ الرجل منفاه الأزلي لتتبخر أطروحات حزب الشعب ؛ ويموت الشعر كعادته في لحظة تحول عجز سكان هذا البلد عن استيعابها؛ كما أثبتت ذلك التجارب اللاحقة؛ المحير في الأمر أن الرئيس المؤسس لم يجد من يتبنى المطالبة بعودته للوطن ومنحه امتيازات؛ لم يحصل منها فعليا سوى على مترين ونصف في مقيرة البعلاتية شمال بتلميت ليوضع برمس تنطبق عليه قصة الأديب أحمدو ولد عبد القادر الموسومة “بالقبر المجهول”؛ فلا شيء يميز ضريح الرئيس الراحل عن سائر موتى المسلمين الذين لقوا حتفهم في طريق كان هونفسه قدسماها الأمل لتأخذ بالغلبة وبأشياء أخرى مسميات فرضها واقع الحال.
محمد خونه ولد هيداله الرئيس الذي كانت تخافه جدران وأعمدة أعرشة كل حي في مدن وقرى هذا البلد ؛ لم ينج هو الآخر من قدر رؤساء موريتانيا ما قبل 2005 ؛ حيث وجد نفسه فجأة خارج السياق بالقوة؛ بعد عودة غير موفقة من العاصمة البورندية; لبيدأ قصته مع المعاناة التي استمرت أربع سنوات في سجن كيهدي الذي شكل المحطة الأبرز في حياة ما بعد القصر ؛ والبوابة الرئيسة لكل أساليب التعذيب النفسي والجسدي؛ في سجون الأنظمة التي وصف Boy) Alassane Harouna ) واقع واحد من أشهرها في كتابه “.
J’étais A Walata: le recisme d’Etat en Mauritanie”.
ربما كان محمد خونه ولد هيداله محظوظا؛ لكونه لم يخض تجربة المنفى القسري خارج وطنه؛ ولم يحاسب على إعدامات ارتكبها في حق خيرت ضباط موريتانيا؛ بل استطاع العودة ؛وإن بفتور؛ للمشهد السياسي في العام 2003 بتشجيع من التيار الإسلامي الذي عجز وقتها عن مقارعة معاوية ولد سيد أحمد الطايع؛ لكن تلك العودة كلفت هيداله الكثير ؛ وعرضته لمضايقات كادت أن تعيده إلى نقط بدايته مع التعذيب في سجن آخر قد يتم اختياره على أساس سمعته السيئة؛ مع أن هيداله كان الرئيس الوحيد ؛تقريبا؛ الذي تجاوز كل الصعوبات ليحتفظ بامتيازاته كرئيس سابق دون مضايقات تذكر.
من الإطراء إلى المنفى الإجباري
عشرون سنةً من الحكم ارتبطت مورينانيا خلالها باسم معاوية؛ وصدق الرجل مقولة أن موريتانيا تعني شخصه؛ وأن كل الإنجازات مرتبطة باسمه الذي جعل منه شعراء البلد ماركة لكل التطور المزعوم الذي شهدته البلاد خلال عشرين سنة من حكم ولد الطايع.
قد يكون معا وية ضحية لعدم واقعيته في التعامل مع المجتمع الموريتاني؛ الذي استغل طموح الرجل وطيبوبته؛ ليوهمه بأنه باني نهضة موريتانيا الحديثة؛ ليدرك بعد سبعة عشر عاما وتحديدا في صفيف ٢٠٠٣ أنه كان يعيش أحلام يقظة؛ وأن الأوان قد فات لتصحيح الأخطاء التي بنى على أساسها كل تصوراته لإدارة مجتمع انتهازي بكل ماتعنيه الكلمة؛ ولم يكن انقلاب عليه أقرب المقربين منه في العام 2005 سوى إعادة لإنتاج مأساة تعبر عن خلل عميق في البنية العلائقية بين أفراد النظام من جهة وبين الجوقة العامة من جهة أخرى التي تعزف حسب رغبة أصحاب القرار الجدد.
لقد شكلت حالة ولد الطايع نشازا لكونه قارب فترة حكمه في منفاه الإجباري وهي حالة لم تحدث حتى الآن إلا مع الرئيس المؤسس.
تقول رواية الجالية الموريتانية في الدوحة إن معاوية كان يتجنب لقاء أفرداها ..وفضل أن يظل في عزلة تامة عن كل ماله علاقة بموريتانيا ..وحين كنت موظفا في مؤسسةQatar Foundation .. سألني سائق التاكسي عن جنسيتي فأجبته بأني موريتاني ..وبعدفترة كان يأخذوني فيها إلى مكان عملي كنا خلالها نخوض في أحاديث السياسة في الشرق الأدنى والأوسط وشمال إفريقيا فوجئت به ذات يوم ينظر إلي نظرات متكررة؛ على غير العادة بعد شهر ونصف من رحلة تبدأ في السابعة والنصف صباحا لتستغرق عشرين دقيقة في الذهاب ليعاود الكرة في الرابعة والنصف كل يوم باستثاء عطل نهاية الأسبوع؛ . متحدثا كالعادة بانكليزية مكسرة وبلكنة هندية قائلا: ” سأكشف لك اليوم عن مفاجأة ..قلت وماهي ..ضحك وأشار إلى ملتقى الطرق الذي أمامنا (في حي الريان القديم) ..متسائلا هل ترى تلك الفيلا الكبيرة حيث يوجد عناصر من الشرطة؟ ؛ قلت له نعم. قال ثمة يسكن رئيسكم السابق “.
في المكان لايوجد مستقبلون يحملون صوره ولا شعراء ولا حتى شيوخ قبائل؛ حدقت بالمكان لعلي أرى شعار PRDS فلم أر مايدل على تلك الذاكرة التي تناغمت فيها يوما ما السياسة بالنفاق والأنانية بالمصلحة العامة؛ أدركت حينها أنه يعيش في عزلة تامة بعيدة كل البعد عن موسيقى أهل الميداح وأهل اعمرتشيت؛ وعن تلك القصائد العصماء “لمقدمكم طرنا مسرة أوكدنا …”.
محطة الدوحة شكلت منعرجاً مهماً في تاريخ واحد من أطول الرساء حكما لموريتانيا؛حتى الآن؛ ومع ذلك لايزال حنينه إلى واحات آدرار وحجارته ترفضه السياسة دون أن يفكر أصحاب القرار بأن الرجل يستحق بعض الامتيازات؛ لعل أدناها السماح له بالعودة لوطنه حيا؛ كي لايكون قدر الروساء المنفيين هو الحمل في توابيت الموت فقط إلى مثواهم الأخير.
الموت الغامض والإقامة الجبرية
لم يشفع للرئيس السابق المرحوم اعلي ولد محد فال كونه أول رئيس موريتاني يسلم السلطة طواعية لأول رئيس مدني منتخب؛ فقد عانى هو الآخر من الكثير المضايقات لم تصل حد السجن والمنفى ؛ لكنها وصلت مرحلة التهميش والإقصاء؛ مع أن ذلك لم يثنه عن مواصلة نضاله من خلال منتدى المعارضة الديمقراضية؛ الأمر الذي أدى لموته في ظروف غامضة؛ لم تعرف أسبابها حتى الآن.
أما الرئيس الراحل سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله؛ فقد جندت ضده كل مؤسسات الدولة لفرضه على الاستقالة؛ فلم يجد بدا من اتخاذ قرار بمفصل الجنرات الذين كانوا يحاولون تحديد صلاحيته كرئيس منتخب ؛ وهو القرار الذي أدى للانقلاب عليه؛ لتفرض عليه إقامة جبرية تعرض قبلها لإهانات نفسية وجسدية بحسب مقربين منه؛ فالشيخ الوقور الذي فرضت عليه السلطة فرضا؛ لم يراعي المنقلبون عليه ظروفه الصحية ولا معروفه الذي قدم لهم في ظرف استثنائي..تنكر له كل شيء في لحظة ليجد نفسه في مسقط رأسه تحت إقامة جبرية مشددة دون أن تكون هناك مبررات قانونية أودستورية لذلك؛ اللهم إلا إذاكانت قانونية البيان رقم واحد تجب كل ما قبلها كالعادة..
ولد عبد العزيز ولعنة الرقم 11
من سخرية الأقدار أن تفرض الإقامة الجبرية على ولد عبد العزيز في نفس التاريخ الذي فرضها فيه على سلفه الراحل سيدي ولد الشيخ عبدالله؛ فلعنة الرقم 11 ظلت تطارد عزيز في رحلته من تركيا إلى إسبانيا لتقحمه في السياسة؛ توهم الجنرال الذي احترم فترتي الرئاسة وسلمها لزميله أن العودة ممكنة وبأقل الخسائر؛ لكنه كان مخطئا حين حاول فرض التاريخ كواقع سيمكنه من العودة التي خطط لها مسبقاً.
حالة ولد عبد العزيز تميزت عن غيرها بكونه استطاع أن يقيم مؤتمرات صحفية وينصب نفسه ناطقا باسم المعارضة بعد أن تبخرت كل أجندته السابقة للعودة إلى السلطة؛ لكنه لم يكن يدري ،على مايبدو، أنه بتصرف من هذا القبيل يدفع بنفسه للمصير الذي سبقه إليه رؤساء كثر.
في مقابلته الأخيرة مع إذا عة فرنسا الدولية؛ بدا عزيز مستاءً من وضعه وانتقد بنبرة حادة ماسماها بالنهج الخاطئ الذي يسير فيه نظام غزواني.
ثمة من يرى أن ولد عبد العزيز مُنح فرصا كثيرة للخروج من المشهد بسلام؛ لكن عناده سبب له الكثير من المتاعب التي لن يكون أولها مصادرة كل ممتلكاته؛ بل قد يتطور الأمر في حال إصراره على الاستمرار ؛في النهج ذاته؛ إلى السجن المؤبد مع الأعمال الشاقة ربما في بئر أم كرين اولاته أوغيرهما.
بحسب التاريخ فإن العودة إلى القصرين ممنوعة البتة على كل الرساء السابقين؛ وقد يكلفهم مجر التفكير فيهاحياة في المنفى أو السجن مدى الحياة؛ وفي أحسن الأحوال المضايقات المنغصة للعيش والمُذلة في الكثير من تفاصيلها.
فهل يعي من في القصر الرمادي الآن تلك الحقيقة قبل فوات الأوان؟ أم أن السينار يو الذي بدأ بولد داداه مرورا بعزيز سيتكرر مرات عديدة؟ أرجو ألا تصدق تنبؤات من هذا القبيل !…