تمتلك النيابة العامة حيال الدعوى العمومية سلطات واسعة، نظرا لأخذ المشرع “بالأسلوب التقديري” كما نصت على ذلك المادة 36 من قانون الإجراءات الجنائية قبل أن تحدد أيضا هذه الصلاحيات والتي يمكن أن نجملها في:
– طلب إجراء التحقيق
– الإحالة إلى السجن في حالة التلبس
– عرض المتهم مباشرة على الجلسة
– حفظ الدعوى، وهذه الصلاحية هي التي تهمنا حيث يتوهم البعض أن حفظ الدعوى يعني عدم إمكانية ملاحقة من حُفظت الدعوى في حقه مستقبلا، بل ترى من حُفظت الدعوى في حقه مستبشرا، والناس تهنئه وكأنه أصبح في مأمن من المحاكمة.
ولا يدري لا هو ولا هم أن وكيل الجمهورية الذي حفظ الدعوى يمكنه التراجع عن هذا القرار من حين لآخر، وذلك بنص المادة 36 من ق إ ج “أو يأمر بحفظها بقرار يمكن له دائما التراجع عنه”.
ولتصحيح هذا المفهوم ولأهميته في الساحة القانونية والإعلامية ولما يثير من إشكاليات من قبيل ماهي أسباب حفظ الدعوى؟ وفيمَ تتجلى آثارها؟ وكيف يتم جبر الضرر الذي لحق الطرف المدني بعد حفظ الدعوى؟
سأحاول أن أعالجه دون الغوص والتعمق في الجزئيات الدقيقة ، لكي لا يتشتت ذهن القارئ الذي قد لا يكون من أهل الاختصاص وسيكون ذلك من خلال الفقرات التالية: الفقرة الأولى (أسباب حفظ الدعوى وآثارها) ، الفقرة الثانية (بيان الحق المدني وآثاره).
الفقرة الأولى: أسباب حفظ الدعوى وآثارها
تتعدد هذه الأسباب وهي ما سأتناوله (أولا) لتنتج آثارا أتناولها (ثانيا)
أولا: أسباب حفظ الدعوى
لم يحدد النص على سبيل الحصر أسباب حفظ الدعوى إلا أننا نجد الفقه ك (محمد بوزبع، شرح قانون الإجراءات الجنائية، جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية ط الثالثة ج 1 ص 43) وغيره؛ قد عددها وأجملها في:
– عدم تجريم الوقائع: إذ المبدأ المعروف هو أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني سابق على ارتكابها؛ غير أن هذه الأفعال قد تكون مرتبطة بخطإ مدني.
– عدم كفاية الأدلة: إذا كان الفعل مجرما إلا أن النيابة لم يتحصل لديها من الأدلة ما تستطيع معه إسناده إلى المتهم فإنها تكون مرغمة على حفظ الدعوى، لكي لا تضر بقرينة البراءة وتثقل كاهل القضاء بأعباء مصاريف نتيجتها السالبة متوقعة أصلا.
وعليه فمتى ما طرأت أدلة جديدة أمكن تحريك الدعوى من جديد كما في م 36 من قانون الإجراءات الجنائية.
– عدم معرفة الفاعل: في القضايا التي لا يمكن التحقيق فيها ضد مجهول أو بعد أن تلتمس النيابة طلب التحقيق ضد مجهول، ولم يتعرف على الفاعل فإن النيابة لا تجد بدا من حفظ الدعوى.
– سقوط الدعوى العمومية: إذا سقطت الدعوى العمومية بحصول سبب من أسبابها الثمانية المنصوصة في المادة 6 من قانون الإجراءات الجنائية، فإنه لا مناص من حفظ الدعوى.
– توفر المتهم على الحصانة القضائية: إذا لم تحجب الحصانة عن المتهم فإن النيابة لا يمكنها سوى حفظ الدعوى.
– تخلف الشرط إذا كان لازما: كما في حالة الشكاية التي تعد شرطا؛ كما في الجرائم ما بين الزوجين.
– عدم ملاءمة المتابعة بعد ضمان مصالح الدولة الاقتصادية والمالية.
ثانيا: آثار حفظ الدعوى
من أهم آثار حفظ الدعوى ما نصت عليه المادة 36 من ق إ ج ويتمثل ذلك في:
أ- إعلان النيابة قرار الحفظ للطرف الشاكي أو الطرف المدني في أجل ثمانية أيام وعلى هذا نصت المادة نصا صريحا “وفي حالة الحفظ بدون متابعة للشكوى أو محضر البحث يعلن قراره إلى الشاكي أو إلى الطـرف المدني خلال أجل لا يتجاوز ثمانية أيام”
ب – الإعلام بالحق في القيام بالحق المدني: “وعليه أن يبلغ كذلك الشاكي بأن له الحق فـي القيـام بـالحق المدني أمام قاضي التحقيق” (المادة السالفة الذكر) وليس أمام قاضي التحقيق فحسب وإنما أمام رئيس المحكمة أيضا كما في المادة 378 و 381 وما بعدها من قانون الإجراءات الجنائية.
الفقرة الثانية: القيام بالحق المدني وآثاره
خول المشرع حق القيام بالحق المدني للمتضرر وهو ما سأتطرق له (أولا) على أن أتبعه بالآثار المترتبة عليه (ثانيا)
أولا: القيام بالحق المدني
للمزج بين “النظام الاتهامي” الذي ينيط القيام بالدعوى العمومية من طرف المتضرر نفسه وبين “النظام التفتيشي” الذي يقصرها على أجهزة الدولة فإن المشرع الموريتاني قد فتح الباب أمام المتضرر لتحريك الدعوى دون ممارستها، كما في المادة 6 إلا أنها لم تسد عليه الباب في حال تعسف النيابة وحفظها للدعوى دون وجه حق ، فجعلت من قيامه بالحق المدني أمام قاضي التحقيق فرصة لاسترداده لحقوقه، إضافة إلى قيامه به أمام المحكمة مع اشتراطه -المشرع- لبعض الشروط.
أ- القيام بالحق المدني أمام قاضي التحقيق: نصت المادة 74 من قانون الإجراءات الجنائية أنه “يجوز لكل شخص يرى أنه تضرر من جناية أو جنحة أن يقوم صـراحة بـالحق المدني وذلك بتقديم شكوى أمام قاضي التحقيق المختص”
وحينها يلزم قاضي التحقيق فتح التحقيق وليس للوكيل أن يطلب منه عدم ذلك بنص المادة 76 من قانون الإجراءات الجنائية “لا يجوز لوكيل الجمهورية أن يتقدم إلى قاضي التحقيق بطلب عدم إجراء تحقيـق ولا لقاضـي التحقيق أن يمتنع عن إجراء تحقيق”
وتتلخص شروط القيام بالحق المدني أمام قاضي التحقيق في:
– قابلية الوقائع للتجريم والتكييف الجزائي: وإلا لجاز للقاضي عدم فتح التحقيق وذلك ما أشارت إليه المادة 76 ( سالفة الذكر) “ولا لقاضـي التحقيق أن يمتنع عن إجراء تحقيق إلا إذا كانت الوقائع المعروضة لا تستوجب قانونا إجراء المتابعـة لوجود أسباب تمس الدعوى العمومية، أو إذا كانت الوقائع لا تقبل أي تكييف جزائي حتى لو افتـرض وجودها”.
– إيداع المصاريف القضائية: ويكون ذلك في حالة عدم حصول الطرف المتضرر على المساعدة القضائية ، مع مراعاة الوضعية المالية له، على معنى م 78 ق إ ج.
– اختيار الموطن: وعلى هذا الشرط نصت م 79 من ق إ ج “على كل قائم بالحق المدني، لا يقيم في مقر المحكمة التي يجري فيها التحقيـق، أن يعين مقرا مختارا في هذا المكان أو عاصمة منطقة إدارية داخلة في اختـصاص المحكمـة”.
ب- القيام بالحق المدني أمام رئيس المحكمة: قد نصت المادة 378 من ق إ ج وما بعدها على هذا الحق حيث تنص م 381 أنه “يجوز للشخص الذي يدعي أنه تضرر من جريمة أن يقدم شـكوى إلـى رئـيس المحكمة يصرح فيها بالقيام بالحق المدني”؛
ولعل الشرط البارز في هذه الحالة ؛ هو إيداع المصاريف القضائية وإبداء التصريح قبل إبداء النيابة العامة لطلباتها في الأصل.
ثانيا: آثار القيام بالحق المدني:
بعد أن ينهض الطرف المدني بحقه مستوفيا الشروط المطلوبة فإن أهم ما ينتج عن ذلك من آثار:
أ- إلزام النيابة العامة باستدعاء المتهم وإبداء طلباتها كما في المواد 76 و 381 من القانون سالف الذكر.
ب- الشروع في التحقيق أو المحاكمة :وينتج عن ذلك إما؛ إصدار القاضي أمرا بأن لا وجه للمتابعة وحينها يكون “للمتهم ولكل من الأشخاص المذكورين في الشكوى إذا لم يلجؤوا لطريق المطالبة المدنيـة، أن يطلبوا الحكم لهم قبل الشاكي بالتعويض، وذلك حسب الشكليات المذكورة فيما بعد ودون إخلال بحقهـم في اتخاذ إجراءات البلاغ الكاذب” كما في المادة 81 من قانون الإجراءات الجنائية.
وإما مواصلة التحقيق والحكم لصالح الطرف المدني وهذه هي غايته وهدفه من القيام بالحق المدني.
لارتباط القانون بالسياسة وتأثر كل منهما بالآخر لا يجد المرء بدا من الحديث في السياسة وإن اختلفت الزاوية التي يعالج منها كل قانوني القضايا لذا سأكتفي وأنا الذي لا أحبذ الحديث في السياسة -وإنما أتناول القضايا بصفة مجردة- بتقدير جهود السلطة التنفيذية وعلى رأسها الرئيس في إرساء سفينة العدل بإقامة دولة المؤسسات واحترام مبدأ الفصل بين السلطات والذي ظهر جليا في إعداد السلطة التشريعية لتقرير أحيل إلى السلطة القضائية دون أن تمارس السلطة التنفيذية تأثيرا على أي من السلطتين، ومن هذا تُستفاد الدروس في تقوية شوكة الدولة وثقة المواطن فيها وردع من تسول له نفسه تبديد خيرات هذا الوطن؛ وأفضل ما في هذا الإنجاز المرتبط بتحقيق النماء والرفاه أنه تم في صمت دون تجنيد وسائل الإعلام الرسمية للنيل من عرض أي مشمول على عكس ما كان يحصل في فترات سابقة سُلب أصحابها الأخلاق والنخوة؛ ولعل من الأكمل في نظري أن يلعب الإعلام الرسمي والخصوصي دوره التثقيفي في التعريف بالمحاكمة العادلة لكي لا يتوهم البعض أن من حُفظت الدعوى في حقه كان ذلك لعلاقة مشبوهة في السلطة ولا العكس.
وكخاتمة فإن حفظ الدعوى كما أسلفت إجراء تقديري تقوم به النيابة ولتصويبه أتيح لها إمكانية تحريك الدعوى متى ما رأت ذلك ضروريا كما أتيح للطرف المدني القيام بالحق المدني الذي قد يختلف في مراميه عن غاية الدعوى العمومية، التي تصبو إلى الردع العام والخاص ، فهو يهدف إلى جبر الضرر الذي لحق الطرف المدني؛ والمتمثل في هذه الحالة في استعادة المؤسسات العمومية أمولها، فهل يقوم دفاع الدولة بالقيام بالحق المدني بعد أن حفظت الدعوى -علما أن له الحق في القيام بها حتى قبل ممارسة الدعوى من طرف النيابة- أم أنه سيكتفي بتقليد النيابة