عن محكمة العدل السامية،
صدر أول قانون لمحكمة العدل السامية بموريتانيا سنة 1959، وظلت دون وجود مطلقا بعد ذلك، ورغم أن دستور 1991 نص على وجودها كهيئة دستورية فإنها ظلت كذلك معطلة ولم يصدر أي قانون ينشئها حتى سنة 2007 في عهد الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله حيث تقدمت حكومة الزين ولد زيدان بمشروع القانون المنشئ والمنظم لهذه المحكمة، وقد تشرفتُ بوجودي رئيسا للجنة العدل والداخلية والدفاع بالجمعية الوطنية التي تولت دراسة ومناقشة هذا المشروع إلى جانب زملاء أذكر من بينهم النواب محمد ولد ابيليل، محمد محمود ولد امات، اسلامه ولد عبد الله محمد المصطفى ولد بدر الدين، با عليُ إبرا، وقد أسهم وجود القاضي والاستاذ الامام ولد تكدي كممثل عن الحكومة بصفته وزيرا للعدل وقتها في إثراء هذا النص وإخراجه بالشكل الذي اعتقدنا حينئذ أنه كان الافضل، وقد اكتملت مصادقة الجمعية الوطنية عليه في ربيع 2008.
وحين عمدنا إلى تشكيل هذه المحكمة كانت الدورة البرلمانية العادية قد أغلقت نهاية يونيو، وتقدم نواب وشيوخ بالبرلمان بطلب الدعوة إلى دورة استثنائية لغرض انتخاب أعضاء هذه الهيئة، إلا أن الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله رفض إصدار مرسوم الدعوة إلى دورة استثنائية حينها، ولا يعود الأمر في ذلك إلى اعتراضه مطلقاً على تشكيل هذه المحكمة كما يشاع اليوم، بل بسبب إصرار أعضاء مجلس الشيوخ وقتها على إدراج نقطة في جدول أعمال الدورة تتعلق بإنشاء لجنة التحقيق في ممتلكات هيئة ختو بنت البخاري، وهي اللجنة التي أنشئت لاحقاً على مستوى مجلس الشيوخ دون أن يكون لها وجود أو دعم على مستوى الجمعية الوطنية، وأذكر أننا وقتها عقدنا عدة اجتماعات مع الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان والذي كان آنذاك الزميل المرابط ولد بناهي لإقناع رئيس الجمهورية بإصدار المرسوم الداعي للدورة الاستثنائية دون فائدة بسبب عناد أعضاء مجلس الشيوخ حول موضوع لجنة التحقيق، واعتمادا على سابقة دستورية مماثلة بفرنسا في عهد الرئيس ديغول، لم يكن أمام البرلمان بغرفتيه إلا الرضوخ وقتها لإرادة رئيس الجمهورية وانتظار الدورة العادية القادمة.
بعد ذلك بأسابيع تمت الاطاحة بالرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، لتتم الدعوة لاحقا إلى دورة استثنائية بنفس جدول الاعمال الذي كان مقترحا بالاضافة إلى نقاط أخرى فرضتها حالة الانقلاب والتطلع إلى العودة بالبلد إلى وضعه الدستوري الطبيعي، وقد أثمرت هذه الدورة الاستثنائية انتخاب أعضاء المحكمة، ليس بغرض محاكمة الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله كما أشيع لاحقا، حيث لم يكن ذلك وقتها مطروحا ولا واردا بحال من الاحوال، وإنما لأن تشكيل هذه المحكمة كان مطروحا في عهد الرئيس ولد الشيخ عبد الله وبموافقته ومقترح من حكومته.
وكان أن شرفني الاخوة أعضاء هذه المحكمة بأن اكون أول رئيس لها، حيث عملنا على أن نجعل منها هيئة قائمة بإدارتها ومقرها، إلا أن الحكومة وقتها ظلت تراوح رافضة إصدار المراسيم المطبقة للقانون العضوي المنشئ لهذه المحكمة، كما رفضت التعاطي إيجابيا مع مقترح الميزانية الذي تقدم به أعضاء هذه الهيئة مما حولها إلى هيئة موجودة في شكل أعضائها فقط، ودون أي وجود عملي لغاية انتهاء مأمورية البرلمان سنة 2013.
وأثناء الحوار الوطني المنظم 2016-2017 قدمنا في حزب الاتحاد من أجل الجمهورية مقترحا مكتوبا إلى المتحاورين يقضي من خلال التعديلات الدستورية المرتقبة إلى إلغاء هذه الهيئة وتحويل صلاحياتها إلى القضاء العادي، أو تحويل المجلس الدستوري إلى محكمة دستورية بغرفتين:
- غرفة تختص بالمطابقة والانتخابات،
- غرفة جزائية( تسند إليها مهام محكمة العدل السامية).
خاصة وأن الزيادة في أعضاء المجلس الدستوري وحضور المعارضة فيه تجعل من هذا الاقتراح أمرًا واردا.
وقد كانت فلسفة هذا الاقتراح نابعة من ضرورة الفصل بين سلطة الاتهام وسلطة المحاكمة، بغرض الابقاء على سلطة الاتهام بيد البرلمان على أن تتولى إحدى الجهتين المذكورتين آنفا مهام المحاكمة.
وفي النهاية تقرر أن يبقى الحال بالنسبة لهذه الهيئة على ما كان عليه دون أي تغيير.
أشير أخيرا إلى أنه في ظل المنظومة الدستورية الحالية والنصوص القانونية المطابقة، لا يمكن في نظري المتواضع جدا بأي حال من الاحوال محاكمة رئيس الجمهورية أو أعضاء الحكومة عن الجرائم المقترفة أثناء ممارستهم لوظائفهم إلا من خلال وبواسطة محكمة العدل السامية ومحكمة العدل السامية فقط، ولا يمكن للقضاء العادي وفق نصوصنا مواجهة الحصانة الرئاسية بأية طريقة والنص الدستوري لا يترك في ذلك مجالا لأي تأويل.
كما أن العقوبات أمام محكمة العدل السامية مفتوحة والعزل ليس إلا أحدها، مما يعني شمولها لرؤساء الجمهورية السابقين بقيد التقادم طبعا، ويتم التصويت على هذه العقوبات في حالات الادانة بشكل سري، وتعتمد العقوبة الاخف من بينها وفق مسطرة يحددها قانون المحكمة.